لقد نشأت في حضن كيان الأنصار وتعلمت لدى خلوة الفكي علي السيوري في الجزيرة أبا ثم مدرسة الكتاب في الجزيرة أبا. وانتقل والدي عليه الرضوان من الجزيرة أبا إلى العاصمة وفيها درست في خلوة الفكي أحمد العجب ثم في مدرسة الأحفاد الكتاب. ولكن في مراحل لاحقة التحقت بكلية كمبوني ثم التحقت بكلية فكتوريا في الإسكندرية.
ههنا ثرت أول مرة ثورات تكررت فيما بعد.
كانت كلية فكتوريا مؤسسة تعليمية بريطانية لغسل أدمغة أبناء الأسر الكبيرة في الشرق الأوسط. كل الرموز والمناهج ملونة. والتكلم بين الطلبة بغير الإنجليزية ممنوع.
وفي بداية الخمسينيات من القرن الماضي نشطت الحركة الوطنية المصرية وقام طلبة الكلية من المصريين بحرق صورة الملك جورج التي كانت مهداة منه للكلية وعلقت في المكتبة.
قررت الإدارة التصدي لهذا التمرد بعدد من الإجراءات منها أن ينشد الطلبة في الصباح قبل الدراسة نشيد ولاء للإمبراطورية: فكتوريا فكتوريا يا عظيمة نحن نحمل اسمك ونباهي بذكرك.
ههنا ودون مشاورة أحد قررت وأنا في السادسة عشر أن أقطع صلتي بالكلية بل بكل التعليم الحديث وكان الشيخ الطيب السراج قد أوكل إليه كتابة تاريخ المهدية.
الشيخ الطيب حامل لواء ثورة ثقافية متمردة على العصر الحديث كله. تتلمذت على يد هذا العالم الجليل وذات مرة زرت معه نادي أساتذة جامعة الخرطوم. وكان يمر عليه يلتقي الطلبة مبشراً بآرائه. هنالك قابلني صدفة الأستاذ ثابت جرجس الأستاذ في كلية العلوم. أدرك أنني نبذت التعليم الحديث. قال لي ولكن كيف ننهض إذا نبذنا العلوم التطبيقية والتكنولوجيا؟
اقتنعت أن استثنيها ما أدى للتحضير لدخول جامعة الخرطوم لأدرس العلوم ثم الزراعة.
وعدني الأستاذ ساندون عميد كلية العلوم أنني إذا حصلت على الثانوية العامة سوف يلحقني بالكلية. ظهرت النتيجة في الفترة الثالثة فقبلت ووعدني إذا نجحت أن ينقلني مع دفعتي. نجحت ولكن مجلس الجامعة رفض حتى لا تصير سابقة.
لم أكن أفكر في الذهاب لأكسفرد ولكنه كنوع من تعويضي قال لي أنا خريج أكسفرد وأستطيع أن أجد لك قبولاً.
هذا لم يكن عادياً ولعله بسبب أن أحد أعضاء الإدارة البريطانية قد تنبأ لي بمستقبل قيادي منذ كنت في الثانية عشر من عمري.
في أكسفرد قدت نهجاً ثورياً قيادياً في النادي الاشتراكي والنادي الأفريقي والنادي العربي وكونت الاتحاد الاسلامي. كان نهجي فيها جميعاً راديكالياً.
تخرجت في عمر صغير 21 سنة ومع أن والدي كلفني بمهام في حزب الأمة ابتعدت عن الحزب بعدها والتحقت بوزارة المالية بهدف أن أبعث لدراسة الزراعة.
أثناء فترة جامعة الخرطوم وبعد التخرج طرقت أبواب كل الجماعات الفكرية والدينية في السودان قابلت كل قيادات الطرق الصوفية: السمانية والقادرية والتجانية ودعاة السلفية الشيخ طنون والإخوان المسلمون الشيخ علي طالب الله والتقيت لقاءات حوار كذلك مع شيوخ الطرق الحديثة: الشيخ محمد عثمان عبده البرهاني والشيخ عثمان أونسة. واهتممت بأصحاب الآيديولوجيات الأستاذ عبد الخالق محجوب الشيوعي والأستاذ بدر الدين مدثر البعثي والأستاذ محمود محمد طه الجمهوري. سمعت منه كثيراً وكتبت في صحيفة الجمهورية. كنت أواصل تلك الاتصالات كباحث دون ارتباط بأي تنظيم واستعد لمواصلة دراسة الزراعة مبعوثاً من قسم التخطيط الاقتصادي في وزارة المالية.
كنت أسمع أن الائتلاف الحاكم بين حزب الأمة وحزب الشعب الديمقراطي مأزوم. وكان أبي كرئيس للحزب يرى أن الائتلاف المنطقي هو بين حزب الأمة والوطني الاتحادي. وكان أغلبية نواب حزب الأمة مع هذا الرأي. ولكن رئيس الوزراء السيد عبد الله خليل رحمه الله كان يرى رأياً آخر شهد السيد أمين التوم في مذكراته أن أجهزة الحزب لم توافقه عليه ولكنه أفلح في إقناع السيدين فباركا الانقلاب العسكري في 17/11/1958.
حتى هذه اللحظة كنت متفرجاً على المشهد السياسي ولكنني اتخذت موقفاً صارخاً ضد انقلاب 17 نوفمبر 1958 واستقلت من الوظيفة محتجاً وانحزت لموقف والدي الذي عاد من الخارج ليعلن ضرورة نقض الانقلاب العسكري. وصار في وجه المدفع يواجه الانقلابيين وفي 24 مارس 1959 انتقل والده الإمام عبد الرحمن واختاره خليفة له. هكذا صار والدي في وجه المدفع قائداً المعارضة للنظام العسكري.
ههنا انتهى موقفي كمتفرج على المشهد السياسي وألغيت مشروع مواصلة الدراسة وصرت ذراع أبي اليمنى في المعارضة وخضت مع الآخرين ثورة 21 أكتوبر 1964.
مجاهداتي هي التي جعلت جماهير حزب الأمة تنتخبني رئيساً للحزب في سن مبكرة 26 سنة رغم اعتراض قادة أسرتي. سيرتي أكثر سيرة شخص عمل في السياسة في العالم الثالث توثيقاً وقد أفلحت بنتي رباح في تدوينها ونشرها في 6 مجلدات.
مكنني السجن ثمان سنوات ونصف أن أطلع وأدرس ثلاثة ألف كتاب. ومكنتني الظروف أن أكتب معارف فكرية وتجارب سياسية ونضالات جهادية واجتهادية ومعارف إقليمية ودولية.
لقد دونت اجتهاداتي في حوالي 113 إصدارة من كتاب إلى كتيب. ذلك أنني أعتقد أن العاملين في الحقل العام إما أكاديميون يكتبون من خارج التجارب، حقيقة قال عنها عمانويل كانط: كل معرفة من خارج التجربة المعنية نظرية. وقديماً قال الحكيم:
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها
أو سياسيون قليلو القراءة والكتابة. لذلك وجدت من واجبي أن أملأ هذه الفجوات ولا أزعم أن كتاباتي منزلة بل هي اجتهادات من شأنها أن تخاطب أجيالاً واجبنا نحوها أن نخاطبها وقد تكون حافزاً لآخرين وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
كتبي تناولت المواضيع العامة كافة وصارت مكتبة. ومؤخراً رأيت أن أقدم دروساً في كبسولات بلغت حتى الآن عشراً:
o يسألونك عن العلمانية.
o يسألونك عن الشيوعية.
o يسألونك عن القومية العربية.
o يسألونك عن الافريقانية.
o يسألونك عن البيئة.
o نحو أنموذج تنموي جديد.
o شروط استدامة الديمقراطية.
o لماذا أنا مسلم.
o المعادلة الكسبية والمعادلة الصفرية في حوض النيل.
o مهمة الأمم المتحدة في السودان
سوف أواصل هذه الكبسولات لتشمل قضايا حيوية أخرى:
السلام- والخدمات الاجتماعية – والعلاقات الاقليمية والدولية وهلم جرا.
ولكن ههنا أتناول الفكرة الجمهورية التي ألفها الأستاذ محمود محمد طه رحمه الله.
مقدمة
لقد أصاب أمتنا داء من ثلاثة أوبئة هي: الركود الفقهي كما في جوهرة التوحيد:
وَمَالِـكٌ وَسَـائِـرُ اْلأَئِـمَّـهْ أَبُـو الْقَاسِـمْ هُـدَاةُ اْلأُمَّـهْ
فَوَاجِبٌ تَقْلِيـدُ حَبْـرٍ مِنْهُـمُ كَـذَا حكا الْقَـوْمُ بِقولٍ يُفْهَـمُ
وجمود فكري:
الْعِلْمُ مَا كَانَ فِيهِ قَالَ حَدَّثَــــــنَا وَمَا سِوَى ذَاكَ وَسْوَاس الشَّيَاطِينِ
وثالثة الأثافي الركون للطغيان كمان قال ابن حجر العسقلاني: أجمع الجمهور على طاعة المتغلب والقتال معه.
هذا الثالوث المقيت أودى بحيوية الأمة وجعلها صيداً سهلاً للإمبريالية الحديثة. الإمبريالية الحديثة لم تكن مجرد غزو سلطاني بل صحبه غزو فكري وثقافي.
وأمتنا اتخذت ثلاثة مواقف من الفكر والثقافة الوافدة: الرفض التام كما في الموقف السلفي، والقبول التام كما في مواقف ضياء غوك ألب وسلامة موسى الثابتة، وموقفي طه حسين وتوفيق الحكيم في البداية، وغيرهم، ومحاولة التوفيق كما في موقف الشيخين جمال الدين ومحمد عبده وكان الإمام عبد الرحمن عليه الرضوان رائد هذا التوفيق بنهج عملي.
ولكن الرفض اتخذ موقفاً فلسفياً كما عبر عن ذلك زكي نجيب محمود الذي اعتبر كل ما لا يمكن التحقق منه بالتجربة كلاماً فارغاً.
والعلمانية بمدارسها المختلفة اللبرالية والشيوعية والبعثية؛ قررت ألا مكان للدين في الشأن العام في صورة مخففة، والإلحاد في الصورة المغلظة.
العلمانية اشتقاق على غير قياس من عالم ومعناها الفلسفي أن الحقائق هي موجودات الزمان والمكان. هذا فيما يتعلق بما ندركه بحواسنا وعقولنا. هذا ما تناوله أعظم فلاسفة الغرب عمانويل كانط في كتابه “نقد العقل النظري” . ولكنه استأنف الموقف فيما لا تدركه العقول وسماه “نقد العقل العملي” . العلمانية الأصولية جائرة فيما تقوله عن عالم الغيب: عالم ما وراء الطبيعة.
الماركسية كأداة تحليل تثمن دور العامل المادي في حياة الإنسان، وتأثير المصلحة المادية في تكوين الطبقات الاجتماعية، وأثر الصراع الطبقي في المواقف السياسية؛ أداة محقة في التحليل التاريخي، ولكنها تجاوزت الحدود في اعتبار المادة والصراع الطبقي وحدهما ماكينة حركة التاريخ. والأيديولوجية التي ارتبطت بها في ظروف تاريخية معينة في بداية نشأة النظام الرأسمالي في أوربا الغربية والنسخة اللينينية لها في روسيا القيصرية أيديولوجيات وليدة ظروف اجتماعية معينة لم تعد موجودة ما جعل الأيديولوجيات المرتبطة بها غير صالحة للحاضر.
إن للفكر البعثي دوراً في بلاد ذات قومية عربية واحدة أما في بلادنا حيث الوجود العربي يساكن شعوباً ذات ثقافات أخرى فهي عامل تمزق للنسيج الاجتماعي.
هذه الرؤى تتخذ مواقف فكرية خارج المنظومة الإيمانية.
ولكن هنالك فكرويات حديثة تنطلق من منظومات إيمانية مثل الدعوة لاعتماد تاريخية نصوص الوحي، والدعوة لقطيعة معرفية بيننا وبين التراث، وغيرهما.
دعوة الأستاذ محمود محمد طه
دعوة الأستاذ محمود محمد طه تنطلق من منظومة إيمانية. وأهم ما فيها أربع مقولات: أن الإسلام رسالتان، وأن القرآن المكي ناسخ للقرآن المدني، وأن الإنسان يمكن أن يسمو حتى إلى مقام الرب، ومقولة وحدة الوجود.
الرسالة الثانية
أما القول بالرسالة الثانية فيكمن في أدبيات عديدة عمدتها كتاب “الرسالة الثانية” وفيه وصف أن الإسلام رسالتان يسفر عنهما تأويل القرآن، فالإسلام الأول نزل على أمة محمد صلى الله عليه وسلم في القرن السابع الميلادي، ولكنه ليس الإسلام الأخير المعني في الآية الكريمة ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ). هذا الإسلام تنهض به أمة الرسالة الثانية المتنبأ بها. قال: (المسلمون كأمة لم يجيئوا بعد، ولقد تنبأ المعصوم بمجيئهم في آخر الزمان، وذلك حين يبلغ الكتاب أجله،..،. ويومئذ يدخل الناس في الدين كافة، ولا يجدون عن ذلك منصرفاً، لأن جميع المشاكل لا تجد حلها إلا فيه. وما نرى أن الأرض أخذت تتهيأ لظهور شريعة المسلمين التي بها تكون المدنية الجديدة، وما بدون المدنية الجديدة للناس خلاص من إفلاس النظم الاجتماعية المعاصرة) .
هذا الإسلام الأخير لم يبلغه سوى النبي صلى الله عليه وسلم، وسوف تبلغه أمة الرسالة الثانية: (وقد كان محمد يومئذٍ طليعة المسلمين المقبلين، وهو كأنما جاء لأمته، أمة المؤمنين، من المستقبل، فهو لم يكن منهم فقد كان المسلم الوحيد بينهم،..، وكان أبو بكر وهو ثاني اثنين طليعة المؤمنين وكان بينه وبين النبي أمد بعيد) . (فالإسلام الأول ليست به عبرة، وإنما كان الإسلام الذي عصم الرقاب من السيف، وقد حسب في حظيرته رجال أكل النفاق قلوبهم، وانطوت ضلوعهم على بغض النبي وأصحابه.. لأن المعصوم قد قال: “أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله) . و(الرسالة الأولى إنما هي تنزل عن الرسالة الثانية لتناسب الوقت ولتستوعب حاجة مجتمعه، ولتتلطف بالضعف البشري يومئذٍ) .
وأقول: نعم هنالك فهم ظاهري لنصوص الوحي وفهم تأويلي، ولكن هذا لا يدل على وجود رسالتين بل هي رسالة واحدة قابلة بالتدبر والحكمة ومراعاة المقاصد لمراعاة ظروف الزمان والمكان والحال.
القرآن المكي ينسخ المدني
يعتبر الأستاذ محمود أن الرسالة الأولى للإسلام كامنة في القرآن المدني، وفيه تشريع يخص أمة المؤمنين التي لا تطيق مراقي الرسالة الثانية الكامنة في القرآن المكي. ففي القرن السابع (ما انتصر الإسلام وانما انتصر الإيمان، ولقد جاء القرآن مقسماً بين الإيمان والإسلام، في معنى ما جاء إنزاله مقسماً بين مدني ومكي) . فسمى القرآن المكي قرآن أصول، وهو مؤجل لحين الرسالة الثانية، والقرآن المدني قرآن فروع خاص بأمة الرسالة الأولى وبحسب ما تطيق.
وبالتالي فإن الرسالة الثانية في القرن العشرين تجعل القرآن المكي ينسخ المدني، بينما في القرن السابع الميلادي نسخ القرآن المدنيُ المكي.
وقد استدل بأن الآية (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) كانت حينها منسوخة بآية السيف ، مع أنها آية مدنية، ولا إجماع حول نسخها آنذاك .. نسخ القرآن المكي للمدني رؤية غير موضوعية وصاحبها يطبقها بصورة غير منطقية.
الترقي إلى الله
هنالك في الفكر الطهوي دعوة رقي الإنسان حتى أن يصير هو الله، ومهما قيل من أن مضابط دعوته تذكر الترقي كعملية لا نهائية، إلا أنها أحياناً أخرى تثبت الوصول. والأهم أنها تفسر كثيراً من آيات الرجعى الأخروية على أنها تشير إلى تلك الصيرورة الإلهية.
وهناك تكرار لأن هذا الترقي للوصول إلى الله أمر حتمي، ويتحدث الأستاذ محمود عن السالك نحو مراقي الإنسان الكامل فيقول: (فهو حين يدخل من مدخل شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله يجاهد ليرقى باتقان تقليد المعصوم الى مرتبة “فاعلم أنه لا إله إلا الله” ثم يجاهد باتقان هذا التقليد حتى يرقى بشهادة التوحيد الى مرتبة يتخلى فيها عن الشهادة ولا يرى إلا أن الشاهد هو المشهود. ويطالع بقوله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) . وعندئذ يقف على الأعتاب ويخاطب كفاحا بغير حجاب: (قُلِ اللَّه! ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) . وقل هنا تعني”كن”، وههنا مقام الشرائع الفردية) .
إن تأويل آيات الرجعى لله الأخروية بترقي الفرد إلى: كن الله، تأويل لا ينهض به دليل عقلي ولا إيماني.
وحدة الوجود
في مضابط الطهوية كذلك دعوة وحدة الوجود. قال رداً على متسائل عنها: (التصوف الإسلامي مداره التوحيد. والتوحيد يقول: إن الوجود وحدة لأنه صورة من خالقه الواحد وحدة مطلقة. وإنما التعدد الذي نراه نحن ونظنه أصلاً وهم من أوهام حواسنا القواصر. وكل ما تخلصنا من أوهام الحواس كلما اتضحت أمامنا الوحدة التي تؤلف بين المظاهر المختلفة، حتى أنه إذا اتفق لنا أن ننظر الى الوجود بعين الله لم نر غير هذه الوحدة. )
هذه المفاهيم التي قالت بها صوفية الاستشراق وفلسفات يونانية باطلة، فالله ذات والإنسان ذات والقربى الروحية واردة بلا مجال لاندماج، كما أن وحدة الوجود تهدم منظومة مكارم الأخلاق.
مشروع أن نقول:
في كل شيء له آية تدل على أنه واحد
وغير مشروع أن نقول:
في كل شيء له آية تدل على أنه عينه
لقد قمت ببحوث فلسفية مطولة حول ماهية الوجود، وعرضت أن بعض الأديان يؤمن أن الوجود كله راجع إلى أصل واحد يعبر عنه اعتقاد البراهمنية الهندية بأن البراهمان هو الأتمان (أي أن اللاهوت والناسوت أمر واحد)، مثلما بعض عقائد المتصوفة، فعقيدة وحدة الوجود في غالبها تعود لأثر الفلسفة الهندية على كثير من الفلسفات والرؤى الدينية. وقد قال بوحدة الوجود فلاسفة منهم أفلوطين، وابن طفيل، وسبينوزا، وهيجل. وقد نفيت أية معقولية للأحدية كتفسير للوجود، كما وصفت كيف أن الأديان الإلهية كاليهودية، والمسيحية، والإسلام تؤمن بكثرية الوجود إذ تقول بوجود أصلين على الأقل: الله والعالم. .
قصة الخلق
وحول مسألة الخلق في الفكر الجمهوري عدد من الأخطاء:
– جاء في كتاب الرسالة الثانية التأويل التالي للنفس الواحدة التي خلق منها الناس: (أقسم الله بنفسه حين أقسم بقوى النفس البشرية: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً) وهذه النفس الواحدة التي خلقنا منها إنما هي نفسه تبارك وتعالى .)
– يقول إن البارئ منع آدم من شجرة معينة، ولكنه (نسي عهدنا وضعف عزمه عن التزام واجب الحرية فتهالك أمام إغراء زوجه ورغبة نفسه فأساء استعمال حريته فصادرناها. ( كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) .) وبالتالي فإن حواء تحمل وزراً أكبر من آدم: إنهم جميعا قد عصوا أمر ربهم، وصاروا بالمعصية غلاظاً كثافاً، غير منسجمين مع تلك البيئة اللطيفة، فهبط بهم وزنهم الكثيف، من سلم الترقي إلى الدرك، وهو ما سمي أسفل سافلين، وكان ترتيبهم في الهبوط إبليس أولا متبوعاً بحواء ثم آدم .
– ونراه يضع آدم أرفع من حواء: (إن ارادة الحرية لا تختلف عن إرادة الحياة اختلاف نوع، وانما تختلف اختلاف مقدار، ونعني أن ارادة الحرية هي الطرف الرفيع الشفاف من إرادة الحياة، أو قل هي الروح حين تكون إرادة الحياة بمثابة النفس، فإرادة الحياة حواء البنية البشرية، وإرادة الحرية آدمها، والعقل هو نتيجة اللقاء الجنسي بين آدمها وحوائها هذين) .
ولكن: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ) ، ليست هي نفس الله بل نفس إنسانية مخلوقة. (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) فالرجل هو مذكر الإنسان والمرأة هي مؤنث الإنسان والروح والنفس في كليهما، كذاك الحرية والحياة، وتحميل حواء وزر الخطيئة اعتقاد توراتي، فالقرآن يحملهما الخطئة معاً: ( فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ)
خاتمة
مقولات: محمد عابد الجابري لقطيعة معرفية مع التراث، ونصر حامد أبو زيد بتاريخية النص القرآني، وبرهان غليون بعلمنة الإسلام، ومحمد أركون: الدين من فطرة الإنسان الأسطورية، ومحمود محمد طه برسالتين للإسلام ثانيتهما تُدرك في القرن العشرين.. قبول هذه المفاهيم تتطلب نبياً يوحى إليه، وأن تكون دعوته مقنعة بحيث يلتف حولها الناس، ولكن مع غياب النبوة، والتصديق بها، فإن هذه المنظومة الإيمانية من شأنها أن تشعل ردة فعل قوية في الاتجاه المضاد.
إن المنظومات الإيمانية الراديكالية هذه من شأنها أن تثير ضدها أصوليات دينية منكفئة، كما حدث لكل الأديان في الربع الأخير من القرن العشرين.
ليس هذا فحسب بل خوض الجمهوريين في السياسة أدى لمواقف في غاية التناقض، فقد أيدوا نظام الطاغية جعفر محمد نميري لأكثر من عشر سنوات وألفوا في تأييده النشرات والكتيبات، حتى عندما فتك بالأنصار العزل في الجزيرة أبا وودنوباوي في مارس 1970م، وعندما تجاوز أساسيات المحاكم العادلة فبطش بحلفاء الأمس الذين انقلبوا عليه من الشيوعيين في 1971م. هذا الموقف لا يليق بمن يرفع شعار الحرية لنا ولسوانا، ومن تزخر كتاباته بلفظ العنف كوسيلة لتصفية الخلافات أو حتى لفرض الديانة فهو يقول: (إن العنف لا يبعث إلا إحدى خصلتين: إما العنف ممن يطيقون المقاومة أو النفاق من العاجزين عنها، وليس في أيهما خير) .
كما أنه وبالرغم من تأكيد دعوته على أهمية معاملة الناس بالحسنى إذ يقول: (جعل المعصوم الدين كله في هذا المجال فقال: الدين المعاملة) ، إلا أن بعض الجمهوريين اتسموا بأعلى درجة من الوقاحة في سب الآخرين، فقد كان عمر القراي عنواناً للطعان اللعان الذي لم يسلم المسلمون من لسانه وقلمه.
إن في الحضارة الحديثة مفاهيم ذات قيمة إنسانية عظيمة أهمها:
• منظومة حقوق الإنسان: المنطلقة من خمسة أصول: الكرامة، والعدالة، والحرية، والمساواة، والسلام.
• منظومة الحكم الراشد الرباعية: القائمة على المشاركة، والمساءلة، والشفافية، وسيادة حكم القانون.
• حرية البحث العلمي بلا حدود لاكتشاف وتسخير نواميس الكون.
• نظام الاقتصاد الحديث المتعلق بالاستثمار والتنمية.
• نظام العدالة الاجتماعية الاشتراكية.
• النظام الدولي القائم على السلام والتعاون الدوليين.
لقد ألفت ونشرت حتى الآن أكثر من مائة كتاب وكتيب تناولت هذه الموضوعات، وبينت مشروعية استصحابها من نصوص الوحي الإسلامي، بلا حاجة لرسالة ثانية وبلا حاجة لنسخ المكي للمدني، وبلا حاجة لترقي الإنسان حتى يبلغ مقام الرب.
ومع كل تجنى الأخوة الجمهوريين علينا لم نبادلهم الطعن واللعن بدليل:
• أننا قلنا في مناسبات كثيرة إن الإفراط في التكفير نهج مخالف للإسلام، كما قال إمام المتقين علي بن أبي طالب: “إذا قال كلمة تحتمل الكفر من مائة وجه وتحتمل الإيمان من وجه واحد فإنه لا يحكم بالفكر”.
• وقد نشرت كتاباً بعنوان “العقوبات الشرعية وموقعها من النظام الاجتماعي الإسلامي” وفيه قدمت الحجة القوية بأنه لا يوجد حد للردة.
• وعندما جمعنا سجن كوبر مع جمهوريين عاملناهم بالحسنى. لقد استعد جعفر نميري بأحكامه وقضائه ليحكم عليّ بالردة، وأرسل أحد الأغبياء من أعوانه المحسوبين علينا لي في السجن وأوهمه أن يدير حواراً معنا وطلب منه أن أرد كتابة عن رأيي في قوانين الشريعة المزعومة ليتخذ من هذا الرد المكتوب حجة لمحاكمتي بالردة. فرفضت وقرر إطلاق سراحي لأدلي بإدانة فيحرك قضاءه ضدي. طلبت أن أعود لكوبر لأنبه الأخوة الجمهوريين إلى هذا الشرك، وناشدتهم عند إطلاق سراحهم ألا يصدروا تصريحات حول الموضوع. ولكنهم رفضوا النصح وقالوا إن نميري تبين خطأ نهجه “الإسلاموي” ويريدنا أن نخرج لندعمه. فوقعوا في الشرك المنصوب لي.
وطبعاً نحن أعلنا بطلان حكم الردة، وبطلان حكم الإعدام، ولكن مهما كان موقفنا مهذباً لم يشفع لنا من الطعن واللعن.
أعود للموضوع لأقول: إن في نصوص الوحي القطعية متسع لاستيعاب المستجدات، فالإسلام أكبر منظومات الإيمان معقولية، وختم النبوة كما قال محمد إقبال أذان لتحرير الاجتهاد الإنساني.
وهناك مقولات نيرة مثل:
مقولة ابن الجوزي: “في التقليد إبطال منفعة العقل، لأنه إنما خلق للتدبر والتأمل. وقبيح بمن أعطى شمعة يستضيء بها أن يطفئها ويمشي في الظلمة” .
ومقولة الشاطبي: “الأدلة الشرعية لا تنافي قضايا العقول”، و” إن مورد التكليف هو العقل،..، ولا يمكن أن يشترط الشرع وجود العقل ثم يفرض عليه ما يناقضه” .
ومقولة ابن القيم: ” السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح ، وأبعد عن الفساد ، وإن لم يضعه الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا نزل به وحي” .
وأطروحة ابن رشد: فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال .
والمدهش أن كثيراً من علماء العصر المستنيرين أدركوا قيمة الإسلام، نشر الأستاذ روبرت شدنقر وهو عالم مقارنة الأديان كتاباً بعنوان “هل كان المسيح مسلماً؟ وأجاب في متن الكتاب: نعم.
وعالمان في جامعة واشنطن بأمريكا اختارا 113 نصاً إسلامياً في الأخلاق والمعاملات، وأطلقا عليه المقياس الإسلامي، وطبقاه على دول العالم فكانت ايرلندا ودول أوروبا الشمالية هي الأوائل، ودول المسلمين في المؤخرة.
نحن نقول بثورية فكرية هادئة، وسوف تكون مجدية، ونعتقد أن المقولات الإيمانية الراديكالية سوف تؤدي لردود فعل قوية في الاتجاه المضاد، وتوفر ذخائر قوية للمنكفئين وهم أسعد الناس بها، وقديماً قال العز بن عبد السلام: كل أمر يحقق عكس مقاصده باطل.
وقال الحكيم:
من لم يقف عند انتهاء قدره تقاصرت عنه طويلات الخطى
هدنا الله وإياكم إلى صراط مستقيم،،