ساد الحزن أوساط المسرحيين السودانيين برحيل الفنان الممثل القدير الهادى الصديق الأسبوع الماضى إثر حادث حركة مرورى.
ويعد الهادى الصديق أبرز أعمدة الدراما السودانية، وقد لمع نجمه فى سبعينيات القرن الماضي من خلال اضخم الأعمال الدرامية التى قدمت من خلال المسرح والإذاعة والتلفزيون، مثل: مسلسل الدهباية، وأيادى القدر، وصرخة فى وادى الصمت، ودكين.
ويذكر أن الهادى الصديق بدأ مسيرته الفنية عام 1965 كان حينها فى السابعة عشرة، وعرف بتنوع أدوراه فى التلفزيون والإذاعة.
برحيل الفنان الهادى الصديق تطوى صفحة ومسيرة حافلة بالعطاء والتميز. كان الراحل يعمل ماحاضرا بجامعة الجزيره.
التحرير التقت عدداً من الدراميين والنقاد فى شهادات حول الراحل.
االناقد سر السيد: ظلمته الدولة ولم تكرمه
يمكن القول إن الهادى الصديق من الجيل المؤسس للدراما التلفزيونية بصفته ممثلاً، فقد كان حاضرا فيها منذ انطلاقتها الأولى فى النصف الاول من ستينيات القرن الماضى، وكان نجمها الذى يشار إليه بالبنان، ولا يتجاوزه هنا الا الفنان مكى سنادة.
بالرجوع الى مجلة الاذاعة والتلفزيون فى ذلك الوقت سنجد أنه كان نجم أغلفتها. وللهادى الصديق حضور مميز فى المسرح، فقد شارك فى عروض بعض مواسمه الأولى، ونذكر هنا مسرحية الزوبعة.
أما فى الإذاعة، فقد كان نجمها بلا منازع، ولان للإذاعة تاريخاً وأجيالاً فى الدراما الإذاعية، فقد حاز الهادى على موقع نجمها الأول، تحديداً فى التمثيلية الاذاعية.
ربما يكون الهادى الصديق من اصحاب العدد الاكبر فى نجومية التمثيلية الإذاعية، واستطاع عبرها أن يبدع أسلوبه الخاص فى الأداء التمثيلي، مما حدا بكثيرين أن يقلدوه.
نشير هنا أن الهادى كان أيضاً مؤلفاً، فقد ألف عدداً من التمثيليات الإذاعبة.
إن الهادى الصديق يعدّ من مروجى الرومانسية، وقصص الحب، ممثلاً ومؤلفاً عبر الإذاعة من خلال فن التمثيلية الاذاعية. كان الهادى طيب المعشر، وللأسف ظلمته الدولة عبر مؤسساتها الثقافية والإعلامية فلم تكرمه تكريماً يليق به، كما ظلمه النقد ظلماً كبيراً.
الممثل والمخرج الرشيد أحمد عيسى : كان مدرسة متفرده فى الأداء التلقائي
اتصال هاتفى حزين من أستاذي المخرج والناقد السينمائي عبدالرحمن نجدي وهويعزينى في الهادي الصديق صديقه الذى كان يومياً لابد أن يلتقيه. حكى لى بصوت متهدج حزين أن الهادى كان عاشقاً أبدياً للتمثيل. ولد ممثلا ومات ممثلاً رغم ان والده كان كارهاً لما يقوم به ابنه.
بدأت حكايتى مع الهادي عندما جاءت فرقة “مدير ليوم واحد” لتقديم عروضها في مدينة عطبرة في عام 1979م، وكنت آنذاك طالباً فى مدرسة عطبرة، وممثلاً ناشطاً، وعضو اتحاد المسرحيين فى مدينتى الفاضلة. كلفت أن أكون مرافقاً لهذه الفرقة.
دمت الفرقة اول عروضها فى مسرح النيل، واستمرت ثلاثة أيام، ولكن لم تغط العروض تكلفة الفرقة، فكان أن اشترى سلاح المدفعية عرضاً ليعوض لافرقة خسارتها. هكذا كان الجيش عندما كان يلتحم مع شعبه، ولنا فى ذلك سيرة عطرة مع قوات الشعب المسلحه فى كثير من التجارب.
كان الهادي يمتلك عبقرية الأداء، عندما قام بتجسيد شخصية إبراهيم. كنت أتابع هذا التحليق، وتلك الكتابة، والصلاة الروحيه العميقة، وهو يطير على خشبة المسرح، حالات من خروج الروح من الجسد.
كانت تلك المسرحية ذروة من ذرى الموسم المسرحى التى تجلت فيه عبقرية التخطيط السودانى لصناعة ثقافة مسرحية تعنى أولاً بتطوير المبدع لقدراته من خلال تراكم العروض، واستمرارها؛ لتكسب الممثل والمخرج والمؤلف المزيد من اكتشاف قدراته، وترتقى بذوق المتفرج الذى كان ينتظر الموسم المسرحى كواحدة من اهم وسائل ترفيهه وومعرفته ..فالمسرح مدرسة الشعوب التى سيبقى مابقيت الحياة.
عشقه منذ صغره، وصار يؤدى فى حياته الشخصيات التى أحبها، فكان يكتب لذاته فى الأذاعة تلك التمثيليات التى يعيشها فى حياته، فهو يؤمن بأن الممثل حين يكون قادراً أن يؤدى فى الحياة، فسوف يكون قادرا على أن يؤدى فى المسرح والشاشة.. هكذا هم الممثلون، لكل منهم طريقته فى تعرية ومعرفة ذاته.
على الممثل ان يسأل نفسه: لماذا أنا ممثل؟ إنه سؤال بحثك مع ذاتك عن هويتك، فالتمثيل فن شاق، وروح الممثل معذبة ومريضة تبحث دائماً عن ذات أخرى ينهمك فيها، ووهو فى كل خطوة يقتل نفسه، وهكذا يستمر فى تعريه ذاته وبحثه الدائم عن حقيقته..
فكثير من الممثلين يرون التمثيل علاجاً لهم . فالعمل مع كل تلك الشخوص، ومعاناتها وانفعالاتها ومشاعرها المعقدة يمارس من خلالها الممثل معاناته الخاصة، ويحقق وجوده من خلال تجسيد تلك الشخوص..أن تمنح روحك وجسدك لشخصية اخرى ليس ذلك بالفعل السهل العابر..
كنت من المحظوظين لأنني مثلت بجانب الهادى الصديق فى الإذاعة، وفى المسلسل التلفزيونى “الشاهد والضحية” عام 1994م، وهو من تاليف الصديق الكاتب عادل إبراهيم وإخراج المبدع فاروق سليمان.
كان الهادي يقوم بدور الرائد محمد، وكنت مساعده النقيب جلال. الهادى مدرسة متفرده فى الأداء التلقائي، وهو عاشق للكاميرا، تحبه ويحبها. كذلك مع الاذاعة، له ايضا ذلك العشق الأزلى للمايكرفون. فكنت أستمتع بمشاهدته وهو يقف أمامه كأنها عشيقته. كنا نداعبه ونقول له: شنبك من المايك ياهادى.. كان يلتفت إلينا بابتسامته التى لم تكن تفارقه، ويقول لنا:حاضر.
ساأت نفسى وأنا أكتب عن الهادى المبدع .. صرت أكتب عن زملائي المبدعين ناعياً لهم فى ظل غياب الدولة التى لم نعدّ من رعاياها. ألم يفكر أى مسؤول فى وطننا العظيم بحال المبدعين المسرحيين كيف يمارسون فنهم؟ كيف يعيشون؟ لماذا هذا الفقر المدقع الذى ظلوا فيه سنينا عددا؟ ألم يسألوا أنفسهم عن تلك الأجور الضئيلة، التى لايمكن أن تركب بها مواصلات، ناهيك أن تطعم بها أسرتك؟ كل شيء يتغير فى وطنى إلا حال المبدع .. وبعد ذلك يأتى من يوجه نقداً سهلاً لاذعاً للدراما وصانعيها..إلى متى هذا الصمت المريب من قبل الدولة..خاصة فى أمر هيكلة أجهزة الفنون.؟ الى متى ننتظر حتى تمن علينا الدولة بتشريعات تحمى وتصون حقوق المبدع؟ وهكذا نمضى نحن المبدعون يشهد لنا شعبنا أننا كتبنا بأرواحنا وأجسادنا الهزيلة أجمل العروض المسرحية والإذاعية والتلفزيونية، وسنظل على وعدنا بأن اجمل العروض لم تقدم بعد..
المخرج الإذاعى أديب أحمد: كان يتوخى التقمص الكامل وكان صوفياً
الهادي الصديق مدرسة في التمثيل. يتوسل التقمص الكامل منهجاً له، وهو منه متمكن. إذا بدأ في أداء أي دور، فإنه ينهمك وينسى من حوله، وهو في حياته أقرب للصوفية. له عوالم خاصة. لكن الشخوص التي يؤديها لا تنفلت من بين يديه مطلقاً؛ لأنه يكون (حينها) قد أمسك بتلابيبها وطوعها رهن تقمصه.
كنت سعيدا عندما وافق على بطولة أول مسلسل قمت بإخراجه بالاذاعة (متاهة رجل) في عام ١٩٩٦م. كما قام ببطولة آخر مسلسل لي (ذلك الشاطئ ليس بعيداً )، ورغم أن منهجي في الاخراج (الإر تجال ) كان مخالفاً لمنهجه في التمثيل(التقمص).
رحم الله أستاذنا الهادي الصديق رحمة واسعة.
الناقد المسرحى محمد علي مخاوي: كان رسولاً للمحبة والطاقة الإيجابية
سمعته في السبعينيات من القرن الماضي حينما كانت الإذاعه السودانية ذات سطوة علي الأذن، وكان من فرسانها. وشاهدته في التلفزيون نجماً لا يقترب منه الأفول، وبلغ بأدائه الفني مرحلة أهلته دخول قلوب السودانيين، ولست هنا معنياً بتقييمه كفنان، ولكني أنشد لفت أنظار الناس إلي الهادي الصديق الإنسا. اقتربت منه قبل عقد واحد بعد أن كان واحداً من الأبطال الذين اختارهم المخرج أديب أحمد لمسلسل إذاعي كنت كتبته، ولم أحظ بحضور إنتاجه، وبعد فترة قابلني في المسرح القومي محتفياً بالمسلسل، وقال لي: أسعد جدا حين يدلف إلينا دم جديد، وأعطاني شحنة هائله من الدعم المعنوي، وتعمقت العلاقه كلما حضر للحوش، نتلاقي ونتحدث ويطول الحديث أو يقصر ولكنه لم ترد منه مرة واحدة جملة سلبيه في زميل أو عمل لزميل.
كان يبني علي الإيجابيات، ويضيف بمحبته للجميع، لم يكن يوما معنيا بالنقائص، وكان ملكا للتغاضي وسلطاناً للإيجابيين. يمشي بمحبة، ويضيف بصدق، وفوق كل ذلك، تجده سودانياً شديد التواضع، حفياً بالكل، وماسكاً لسانه من عيوب الجميع.
كان رسولاً للمحبة والطاقة الإيجابية، والآن يمضي إلى رحمة الله الواسعة في وقت نحن أحوج ما نكون الي منهجه في الحياة. منهج الحب والتغاضي يفقد سلطانه، ولا نقول إلا ما يرضي الله، ولا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم. اللهم بحلمك وعطفك ولطفك تقبل عبدك الهادي الصديق.
المخرج المسرحي ربيع يوسف: يشهد له الجميع جمال السيرة وطيبها
الهادي صديق مثال للفنان الدرامي العاشق لفنه، فهو غير أنه ملتزم بتقاليد المهنة وأعرافها، فقد ضمن له عشقه سيرة متفردة لا تبدأ بالمناخ الطقسي الذي ينخرط فيه منذ وهلته الأولى، ولا تنتهي بتوتره الخلاق إن كان أمام مايكرفون الإذاعة، أو كاميرا التلفزيون، أو خشبات المسارح التي صال وجال فيها؛ داعماً فيها لتجارب الشباب الذين كثيراً ما وجدوا عنده السند والخبرات التي لم يبخل يوما بها.
كان الهادي فناناً يتداخل ويتكامل مع الإنسان فيه، فمثل ما يتخلق بقيم الخير والجمال حال كونه ممثلاً، إنما لا تغيب عنه هذه القيم، وهو في حياته اليومية بين الناس والزملاء الذين يشهدون جميعا على جمال سيرته وطيبها.
برحيله فتقدت البلاد والمهنة رقماً لا يمكن تخطيه، نسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته، وأن يدخله جنات النعيم، ويصبر أهله وزملاءه صبراً جميلاً.
الفنان السنى محمد دفع الله: تعلمت منه الكثير
قبل أن ألتحق بالمعهد العالي للموسيقى والمسرح كنت أقرأ صفحة كيف تتعلم التمثيل؟ للهادي الصديق بمجلة الاذاعة والتلفزيون.
تعلمت منها الكثير، وفتحت عقلي لمراجع ومصادر أفادتني حينما تقدمنا لدخول المعهد، وكانت الدراسة مدة اسبوعين، ثم اسبوع للتمثيل العملي، وامتحانات المقدرات. الناجح يلتحق بالدراسة، وقد كان، وفي المعهد لم أقابل الهادي، كان مجمد السنة، بعدها التقينا، وعملنا سوياً في مسلسل “ود التليل” هو أخي الأكبر. واليوم نفترق يا أخي وصديقي وأستاذي أنت إلي دار الخلود، لك الرحمة والمغفرة والثبات عند السؤال. إنا لله وإنا اليه راجعون.
الفنان مكى سنادة: كان ظهوره الأول معي في “ليلة رهيبة”
اول ظهور الفقيد كان معي في عام ١٩٦٥م في الفيلم التليفزيوني (ليلة رهيبة) من تاليف حسن عبد المجيد، وإخراج فاروق سليمان عليهم رحمة الله جميعاً، ثم توالت أعماله الفنية في الاذاعة والمسرح والتليفزيون وأذكر منها المسلسل التليفزيوني (الدلالية)، و فيلم (أيادي القدر)، و مسلسل (صرخة في وادي الصمت)، و في مجال المسرح أذكر أنني أسندت إليه بطولة مسرحية (الدهباية) في أحد عروضها المعادة.
المسرحي حاتم محمد على: فقدناً عاشقاً لفن التمثيل
برحيل الممثل الفنان المحترف الهادي الصديق افتقدت البلاد أحد أهم عشاق فن التمثيل والدراما، وحينما نقول عاشقاً لا نبالغ في الوصف؛ لأنها الحقيقة التي تؤكدها شخصية الفقيد الهادي بإخلاصه واستعداده للعب الأدوار، وكيف يكون مستعداً وفرحاً ومسروراً أمام المخرجين، وإن كانوا صغاراً قياساً بتاريخه الطويل، وتجربته الثرة الممتدة لأكثر من أربعة عقود مع عتاة التمثيل والأداء الدرامي والتمثيليِ.
انهم حببوا فن التمثيل للمستمعين والمشاهدين. كان الهادي مْحبا لفنه ومهنته، وهادئاً وسمحاً ومتسامحاً.. فقد عظيم.
الناقد أبوطالب محمد أبو طالب: الهادي كان مثالاً للفنان المؤهل والمنفتح
الحديث عن الراحل المقيم الهادي الصديق متشعب وذي مسار شاق، من أين تبدأ؟ ومن أين تنتهي؟، لأن الراحل أدى أدواراً عدة في مجال الفنون، ولا يمكن أن نعدد الأعمال التي اشترك فيها، وهي متنوعة بين (الدرما الإذاعية والتلفزيونية والسينمائية والمسرح)، وعمل أيضا أستاذا لتدريس مادة الدراما في جامعة الجزيرة، إضافة إلى مجال التدريب والتأهيل في مراكز الشباب في العاصمة والولايات. مزج الهادي صديق في مشروعه الفني الأدائي بين مستويات عدة، إذ قدم في تسعينيات القرن الماضي شخصية دكين التي أصبحث أحاديث الركبان في القري والمدن. وجذب انتباه المشاهد السوداني بمختلف مكوناته الاجتماعية والثقافية بأدائه الواعي المدرك تكوين شخصية الهمباتي.
واستطاع يخلق عبر هذه الشخصية محبة للدراما السودانية، وترقب بمواعيد البث. حتى دفع معجبيه تقليد شخصية دكين في القرى، وهذا ما يؤكد نظرة الهادي المستقبلية لتجسيد دكي،ن وجعلها شخصية ممهورة بطابع الخلود.
وحتى على مستوى الإذاعة، لعب الهادي أدوار عميقة، ومحببة لدي مستمعيه، إضافة إلى دوره في المسرح والسينما.
استطاع عبر هذه المجالات الأدائية التميز والاختلاف في أداء الدور؛ لكونه مؤهلاً ودارساً، ومثقفاً، مما مكنه أن يبنى شخصيات وفق طراز التشخيص الرفيع المحمول بقضايا وهموم مجتمعه، بل عرض التشاديون “دكين” في فضائيتهم نسبة للمكون الإفريقي في المسلسل ومحتواه، وهذا يدلل على أن دكين انفتح على ثقافات المجتمع إالأفريقي، كما انفتح صاحبه على مجالات أدائية متباينة.