ما كتبت عن الرويبضة (الرجل التافه في الشأن العام) الطيب مصطفى حتى عاتبني بعض أصدقاء صفحتي على الفيس بوك أن لو انتفعت بوقتي في غير مسألته. وكان ردي أنه قد يكون رويبضة ولكنه يحسن رويبضته. فله قدرة شيطانية في خلق بؤر يجتمع فيها الطير من شاكلته للتأثير على السياسة. فكانت دعوة الانفصال في الشمال مثلاً خبيئة معزولة لغلبة مزاج الوحدة الوطنية تنفجر هنا وهناك ثم تخمد. فجاء الرويبضة وحشد حولها من اعتقد فيها سراً من قبل. ووفر لهم حزباً وصحيفة وسماجة. وهكذا البذل في خدمة القضية حسنها وقبيحها بذلاً يخلق ما يعرف ب”الكتلة الحاسمة” حولها فتؤتي ثمرها.
وليس تعقبي شرور الرويبضة وليد اليوم. فلم أرفع منه من قبل مستصغراً فتنه. وهذا مقال قديم منذ نحو 2010 افكك عن ياسر عرمان تهمة قتل بعض شباب الإسلاميين في الثمانيات روج لها الرويبضة غير راحم لياسر أو الحقيقة. لقد تحري الرويبضة الكذب عن ياسر حتى صار حقيقة بديلة عنده وعند شيعته.
ظللت أحذر من غير هوادة من مغبة صحافتنا على ذوقنا السياسي وحسنا بالسوية منذ اشتغلت بأمرها في النصف الآخر من الثمانينات. ولم أصدق مع ذلك الدرك الذي انحدرت إليه بعض صحفنا في الأيام الماضية. فتبنت صحيفة الانتباهة ومنبر السودان لصاحبه الطيب مصطفى ليلة تأبين للمرحومين محمد أحمد حسن الأقرع وبلل حامد بلل من طلاب الاتجاه الإسلامي بجامعة القاهرة الفرع اللذين قتلا في “كتلة صف” (أي اختلاط) إخوانية شيوعية قبل عشرين عاماً في 1987. ووجهت التهمة في الحادثة للناشط عادل عبد العاطي حتى برأته المحكمة فسافر لبولندا لمواصلة دراسته الجامعية. وكان من رأي الإسلاميين دائماً أن للأستاذ ياسر عرمان ضلعاً في القتل. فبعضهم يعتقد جازماً أنه هو من وجهت له تهمة القتل برغم توضيحات عبد العاطي العديدة بأنه كان المطلوب من الشرطة (لا ياسر) فأمتثل وقضى في الحبس لأكثر من عام وبرأ القضاء ساحته. ويعتقد أخرون أنه كان يدبر للقتل من وراء حجاب.
ليس خافياً أن مساعي فتح ملف قضية المرحومين هي حرب كيان الشمال وجريدة الانتباهة لياسر عرمان بطريقة أخرى. فقد ركزت عليه في ليلة التأبين تركيزاً فاق المتهم الذي برأته المحكمة في حين لم يرد اسم ياسر في القضية البتة. إلا أنه مما يعرف بسيمائه لدى الانتباهة. فهو في غمزها هو “الآخر الذي تعرفونه” والذي يملأ الأرض ضجيجاً، و”المجرم الآخر الذي يتدثر بالسياسة الآن”، و”يتبوأ منصباً دستوريا في الدولة”، ومن هرب بعد الحادثة واندس بين قوات العقيد قرنق وواصل من هناك سفكه للدماء الذي بدا شوطه بالتدبير بقتل بلل والأقرع من وراء حجاب.
بدا لقارئ الانتباهة أن ياسر لا يحاكم لدوره في التحريض المزعوم بقتل الشهيدين بل لأسباب استجدت أيضاً. فهو متهم علاوة على ذلك بأنه حارب الهوية الإسلامية العربية بانضمامه للحركة الشعبية، وولغ في دماء شهداء الانقاذ، ورفض وضع البسملة في صدر الدستور، وقاد معركة الإباحية لأنه طلب اعتبار التعدد القانوني والعرفي في عقوبة الزنا بما اقتضاه اتفاق السلام الشامل. ولا أعتقد أن أسرة المرحوم بلل (التي تحدث ممثل عنها في التأبين مع حفظ الأسماء)، التي تريد المحاكمة العادلة لقتلة ابنها، تريد أن يكون مقتله بعض ثأرات كيان الشمال والانتباهة.
من أسخم ما في نكأ الإنتباهة لمقتل الأقرع وبلل عقيدة القائمين بالتأبين بأن الإنقاذ، التي بلغت العشرين ربيعاً، هي وحدها التي ستنهض بعقاب ياسر لأن الاقتصاص منه واجب إسلامي. فمن رأي هؤلاء أن دماء بلل والقرع راحت هدراً. فالقاضي الذي برأ عادلاً متواطئ. ودليلهم على هذا التواطؤ بائس. فهو في زعمهم القاضي الأول الذي استقال من القضائية بعد مجيء الانقاذ وأذاع استقالته راديو الحركة الشعبية. وأخشى أن يكون هذا من الحشو الذي طغى في حفل التأبين. فقد ذكر المحامي عن هيئة الاتهام أبوبكر الجعلي أنهم حصلوا على حكم من محكمة الاستئناف (غير واضح زمانه) قضي بالحكم بالإعدام على عبد العاطي. وقال إن هذا الحكم ما زال قائماً. ويبدو أن الوحيد الذي لم يخطر به هو عبد العاطي (الموصوف بالهارب المطلوب في رقبة وإعدام) لأنه يقضي اجازاته بين ظهرانينا في السنوات الأخيرة. وأغاليط “الانتباهة” جلائط. فقد قالت في حفل التأبين إن عبد العاطي قد حكمت عليه المحكمة العليا بالإعدام ولكن كان هناك من مهد له سبل الهروب من السجن. ففر بجلده إلى الاتحاد السوفيتي (تقرأ بولندا). ولم يحدث أي مما جاء في هذا الجزء من قصة الانتباهة بحسب ما قرأته لعبد العاطي.
لا أدري إن كانت خطة الطيب مصطفى لكيان الشمال هي صنو الفوضى. وكان اتفق لنا أن دعوته لانفصال السودان مشروعة طالما اتجه بها لجمهرة الناس والحشاش يملأ شبكته. ولكنه يتنكب الجادة متى روج لها بالأضاليل والفتنة. لقد تقاطعت دروبي مرتين بالطيب ورأى مرأي العين أن للحق نوراً. وجدته مزنوقاً في قضية رفعها ضده منصور خالد لاتهامه له بالعمالة. ووجد في بعض مباحثي عن منصور زبدة دفاعه واستيثاقه. ونسبني لأهل الكرامات إذا صادفت كتاباتي عن منصور حرجه مع الرجل. وروي كرامة طريفة ضحكنا لها على التلفون ونسيتها وأرغب في أن يذكرني إياها