في العهود الغابرة كانت السلطة بيد الملك او السلطان او سيد القبيلة ، كانت القوة بيد جهة واحدة فقط ، تطور هذا المفهوم في العهود الحديثة وجاءت الانتخابات لتجعل السلطة ايضا عند جهة واحدة هي التي تفوز بالانتخابات .القاسم المشترك هو وحدة السلطة ، وحدة القوة ظلت هي الفلسفة السياسية المتفق عليها بين الماضي والحاضر ، القوة لا تصلح للقسمة ، إنقسام القوة وعدم توحيدها يقود إلى الخلاف ( رئيسين بغرقوا المركب ) ، وحدة السلطة وتجانسها شرط لازم لنجاحها ، الله تعالى في معرض تبيانه للظالمين بانه الإله الواحد صاحب القوة المطلقة قال ( ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله ، اذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض ، سبحان الله عما يصفون ) .
نستخلص من هذه المقدمة انه حيثما كان هناك حكم فهناك حوجة لسلطة واحدة مسؤلة ، تعدد السلطات يعني الخلافات ، وحدة القيادة ضرورة ملحة من أجل استقرار السلطة ، وتعدد القيادة يعني اضطراب السلطة وعدم استقرارها .
راجعوا هذا الأمر مع الاضطراب الراهن في الحكومة الانتقالية ، لدينا حكومة واحدة وسلطات متعددة ، سلطة مجلس الوزراء ، سلطة المجلس السيادي، سلطة العسكر ، سلطة قوى الحرية والتغيير . دولة واحدة وخمسة سلطات ،السلطات المنفردة داخلها ايضا سلطات متعددة ، مثلا قوى الحرية والتغيير داخلها سلطات كتل مختلفة ( كتلة تجمع المهنيين، كتلة نداء السودان ، كتلة الإجماع الوطني ، كتلة التجمع الاتحادي، كتلة القوى المدنية ) . فهل تعرفنا على مصدر اضطراب السلطة الانتقالية ؟
معاناة السلطة الانتقالية والبطء في انجاز الملفات سببه الأساسي تعدد السلطات ، نأخذ مثالا ، السياسة الاقتصادية لحكومة الفترة الانتقالية ، مجلس الوزراء اعتمد سياسة السوق الحر ، بينما التيار الشيوعي اليساري داخل قوى الحرية والتغيير يرفض تماما هذه السياسة ويدعوا إلى صيغة اقتصاد اشتراكي ، تيار حزب الأمة القومي يدعو إلى السوق الحر الاجتماعي وهي سياسة وسط تجمع بين سياسة السوق الحر ومعالجة اثارها الجانبية في المجتمع . هذه المدارس الاقتصادية المتناحرة حول ملف مهم وحساس وحيوي نتج من وجود سلطات متعددة داخل الدولة الواحدة ،ومن المتعذر توافقها بشكل نهائي على رؤية موحدة حتى في ظل المؤتمر الاقتصادي .
القضايا المختلف حولها كثيرة ، محاصصات السلطة ، السلام ، علاقة الدين بالدولة، العلاقات الخارجية ، الشراكة مع العسكر . تعاني الحكومة في اقرار موقف موحد من الجميع تجاه هذه الملفات ، التي لا يمكن التعامل معها بمعالجات الاتفاق على الحد الأدنى، وسيكون الصراع عليها بين السلطات المختلفة صراعا مزمنا سيؤدي إلى تأخير إنجاز هذه الملفات وتعطيل نجاحها ،وهذا يعني فشل الحكومة الانتقالية وهو فشل ستواجهه الجماهير بثورة جديدة ، ولست أبالغ حين اقول ان نهاية كرونا اذا لم يسبقها تحول جذري في طريقة تعامل الحكومة الانتقالية مع ملف تحديد السلطات والمسؤوليات بصورة منضبطة وتفصيلية تبعد تماما أثر تعدد السلطات ، فإن الثورة الجماهيرية ستكون حتمية على الحكومة الانتقالية .
هناك خياران لا ثالث لهما لإنجاز سلطة واحدة تقود الفترة الانتقالية بهدوء ونجاح ، الخيار الأول تحويل قوى الحرية والتغيير من تحالف كتل إلى جبهة عريضة ذات قيادة واحدة ولوائح ومسؤوليات رأسية متفق عليها بحيث لا يسمع عن هذه الجبهة رأي منفرد لحزب سياسي أو كتلة سياسية، بل يكون هناك راي واحد فقط يمثل الجبهة باجمعها ، هذا التحول يصاحبه ضبط لاجهزة الحكومة السيادية والتنفيذية عبر إصدار دستور انتقالي متكامل ، يفصل كل الأدوار والمسؤوليات ويمنع تماما أي تقاطعات بين السلطات المكونة للحكومة . هذا الخيار سيحتفظ للثورة بوحدة قيادتها ويعالج إشكاليات السلطة متعددة المصادر .
الخيار الثاني في حال تعذر الخيار الأول هو فك ارتباط الحاضنة السياسية ( قحت ) بالحكومة الانتقالية تماما ، وتحويل المجلس السيادي ومجلس الوزراء إلى حكومة تصريف أعمال ذات مهمة واحدة هي تسيير أعمال البلاد وإقامة انتخابات عامة خلال ٦ شهور تتنافس فيها الأحزاب السياسية وتقود الى فوز حزب واحد يشكل الحكومة الجديدة منفردا او بالأكثر مؤتلفا مع حزب واحد آخر، وسيحقق هذا استقرارا على مستوى هرم السلطة ، يقي البلاد من خطر اضطراب السلطة واحتمال الثورة المضادة ، كما يمثل هذا التحول تحولا شاملا من دولة شمولية إلى دولة شرعية ديمقراطية سيتعامل معها العالم بصورة مختلفة كلية عن تعامله مع الحكومة الانتقالية متعددة الالوان والأشكال والروائح، على أن تواصل الحكومة المنتخبة العمل مع الجميع لإنجاز الملفات المتبقية مثل السلام والمؤتمر الدستوري .
sondy25@gmail.com