في النصف الثاني من شهر مايو 1967م سافرت مع بعض الزملاء الأصدقاء في رحلة لقاهرة المعز باسم جمعية الصحافة والإعلام في جامعة الخرطوم والتي كنت سكرتيرا لها، وكانت زيارتي الثانية للقاهرة وكانت تجربتهم الأولى في السفر خارج الحدود،فأتاح لي ذلك قدرا لا بأس به من استعراض خبراتي ومعرفتي بشوارع ودروب القاهرة التي كانت ، وما زالت، أي خبراتي، لا تتجاوز ميدان العتبة وميدان التحرير وشوارع قليلة بينهما، ولكن ذلك كان كافيا لي وقتها للتباهي علي رفاق سفري بخبراتي في مدن العالم.
في ذلك الوقت كانت المعركة الإعلامية ضد إسرائيل في أوجها بعد أن أغلقت مصر مضيق تيران في البحر الأحمر في وجه الملاحة الإسرائيلية وأعلن الزعيم جمال عبدالناصر أن إسرائيل لو ارادت الحرب فمرحبا بها. كانت أناشيد “حنحارب.. حنحارب” و”إضرب.. من أجل الصغار..
إضرب..من أجل الكبار..إضرب..إضرب” تملأ الأجواء والأسماع.. وبدا الأمر كما لو أن إسرائيل لن تتجرأ على الإنتحار، وأن النصر وشيك على الأبواب ،وكل شيء تحت السيطرة. ومن جانب آخر كانت بعض المؤسسات الإعلامية التي زرناها أو كنا نعتزم زيارتها مشغولة بالكامل بالحشد الإعلامي وتجييش المشاعر استعدادا للمعركة المرتقبة أو النزهة العسكرية، فوفر لنا ذلك بعض الوقت لزيارة معالم المدينة الكبيرة.
ومع صبيحة يوم الخامس من يونيو انطلقت أصوات المدافع والإنفجارات تهز المباني، وصوت أحمد سعيد من الإذاعة يحصي عدد الطائرات الإسرائيلية التي أسقطتها الدفاعات الأرضية أو الطائرات المصرية المقاتلة، وقبل مغيب شمس يوم الخامس من يونيو كان عدد الطائرات التي فقدتها إسرائيل قد تجاوز المائة طائرة. وفي اليوم التالي ما زال أصوات الانفجارات والمدافع وصافرات الإنذار تملأ سماوات القاهرة حتى أعتادت الأذن عليه.
وظهرت إعلانات مكتوبة بالطباشير على بعض الجدران والاسفلت تقول أن سعر التذكرة من القاهرة إلي تل أبيب 150 قرشا، فأخذنا بكل سذاجة نفكر في كيفية إغتنام هذه الفرصة وزيارة اسرائيل التي سيصبح اسمها فلسطين بعد تحريرها وطرد اليهود منها. ودوي المدافع ما زال مستمرا والطائرات الإسرائيلية تواصل السقوط كالفراشات حول النيران، و القنابل تهز الأمكنة ونيرانها تضيء السماوات.
في اليوم السادس أو السابع من يونيو على ما أذكر زارنا في مسكننا المغفور له بإذن الله تعالي الأستاذ مصطفي محمد صالح الذي يمت بصلة القرابة لأحد زملائنا، وبما لديه من سعة أفق واتصالات عكس لنا شيئا من حقيقة الوضع الذي لم يكن كما نسمعه في الراديو، وذهبنا في رفقته لتسجيل اسمائنا في فرع الاتحاد الاشتراكي في شارع قصر النيل كمتطوعين، فشكرنا المسؤول في المكتب بعد أن سجل أسماءنا وطمأننا بألا حاجة لمجهوداتنا لأن كل شيء عال العال والحمد لله، وسيتصلوا بنا إن دعت الضرورة.ثم تداعت الأحداث سريعا،وتكشفت الحقائق عن أسوأ الهزائم في التاريخ العربي القديم والحديث (حبل الكذب قصير)،وأتضح أن ما ظل يردده المذيع أحمد سعيد عن أعداد الطائرات الإسرائيلية التي سقطت كان كذبا عاطلا من الذكاء، واختفت إعلانات الرحلة السياحية لتل ابيب وعدنا من القاهرة للخرطوم نهرا وبرا،بدلا من زيارة تل أبيب، وبقيت في الذاكرة تجربة المعايشة اليومية للإعلام الكاذب،التي كانت قبل سنوات طويلة من ظهور الصحاف الدجال.