في خضم المعركة السياسية ينسى الجميع قضايا اجتماعية ذات أولوية عليا ، هناك مؤشرات كثيرة تدق ناقوس الخطر لإعلان ان الثقافة المجتمعية السودانية تتعرض للاندثار ، من هذه المؤشرات ، تعرض الغناء السوداني لموجات من الادائيات الصوتية الغربية وانواع موسيقية وافدة جاءت في معظمها عبر شباب احتكوا بهذه الثقافات نتيجة هجرة أسرهم إلي بلاد الغرب والعرب ، وحين عادوا إلى الوطن الام نقلوها معهم ، ليس بحسبانها ثقافة موسيقية لبلد آخر وإنما كثقافة تضاف إلى التراث الغنائي السوداني .
الزي السوداني التقليدي يتراجع ، خاصة عند الجيل الجديد ، الثوب السوداني والجلابية والمركوب تكاد تختفي من الجامعات ودور العمل . الألفاظ السودانية الأصيلة تتراجع لمصلحة الفاظ إنجليزية و عربية وافدة ، عاداتنا السودانية السمحة في الافراح والاتراح تتراجع وتسيطر بدلا عنها عادات و ثقافات أجنبية ، الغزو التكنولوجي الهائل عبر الوسائط مثل الانستغرام واليوتيوب وغيرها أصبح احيانا أكثر تأثيرا على ثقافة الولد و البنت من تأثير الاسرة عليهم .
هذا الإشكال حدث نتيجة وجود عطب في المصدات الاجتماعية التي تحمي الثقافة الوطنية من الغزو ، ويظهر ذلك في ، تأثر الاسر السودانية بالوضع الاقتصادي المتدني وانشغالها بلقمة العيش مما قلل من دورها الرئيسي في حماية أفرادها و تربيتهم بصورة لصيقة على العادات والقيم السودانية . احتكار الإعلام المسموع والمقروء والمشاهد بواسطة حزب واحد واتجاه سياسي واحد بثلاثين سنة افقدته القومية و ابعدته عن تمثيل الشعب ، مما اورث نكرانا شعبيا باطنيا جعل الوطن عرضه للغزو الثقافي . تراجع دور المدرسة في التربية ، تراجع مكانة الأستاذ ، تدهور قيمة التأهيل التربوي الذي كانت تقوم به في السابق بخت الرضا ورصيفاتها ، و تراجع المنهج المدرسي عن حمل جينات سودانوية تزكي روح الانتماء و الوطنية. غياب الاحتفاء بالتاريخ وتراجع الولاء للابطال الوطنيين التاريخيين أمثال ملوك كوش وسلاطين سنار والامام محمد احمد المهدي وابطال الاستقلال ، وندرة وجود مشاريع وطنية تحفظ هؤلاء الأبطال في الذاكرة الجمعية للجماهير بالشكل الذي يسهل استعادتهم بواسطة العقل الباطن للأجيال الجديدة .
لحماية هويتنا و ثقافتنا السودانية من الذوبان والتلاشي نحتاج إلى خطوات جادة منها ، نبذ التطرف الديني والتطرف السياسي والاحتكام إلى المواطنة كأساس للحقوق والواجبات . إعادة التزام الاسرة بدورها في التنشئة الصحيحة ، تحتاج الاسرة ألى الاستقرار الاقتصادي والسياسي لدعم قيامها بهذا الدور ، ما يؤكد ضرورة تحقيق استقرار اقتصادي وسياسي عاجل غير اجل ، إعادة الثقة للمعلم و المناهج ، من خلال الأخذ بيد الاساتذة وتوفير المقابل المالي الكافي لهم ، و توفير التدريب و التأهيل لهم على كيفية بذر بذور القيم التعليمية و التربوية في النشء ، و تعزيز دورهم في تنشئة الأجيال من خلال مناهج تعلي من قيمة الوطنية ، لا العربية ولا الإفريقية .
نحتاج لاعادة اكتشاف ازياءنا السودانية و لا مانع من إضافة لمسة عصرية عليها. نحتاج لاسترداد ثقافتنا الوطنية في الغناء والافراح والرقص عبر ايمان مجتمعي بقيمتها في تشكيل وحدتنا الوجدانية اللازمة لتماسك وحدتنا الإنسانية والسياسية في الوطن الواحد . نحتاج لنماذجنا البطولية الوضيئة في التاريخ ، ملوك كوش وسنار والامام المهدي وأبطال الاستقلال ، نحتاج لهم في شكل مجسمات عند مداخل المدن ، في شكل لوحات في الطرقات ، في شكل مناهج مدرسية متخصصة وليس مجرد أبواب في منهج تاريخ العالم ، نحتاج لاستجلاب هؤلاء الابطال لعقل الأجيال الجديدة في شكل كتب وقصائد واغاني و ملاحم مسرحية وتلفزيونية و اسماء طرق و مدارس و جامعات و دور عبادة. نحتاج للاحتفاء بلغتنا و التمسك بها ، نعلي من قيمة لهجاتنا الوطنية و نحتفي بها ونكتبها ونتواصل بها مع الآخر ونصيغ من خلالها وجداننا الوطني.
لا نريد لهذه الثورة أن تغرق في الشؤون السياسية ، وتنسى الثقافة والاجتماع ، هذه صرخة تنوير لبعث هذا الشعب وإعادته للواقع لمواجهة ذوبان محتمل لثقافته الوطنية.
sondy25@gmail.com