لا أدري ما المغزى الذي جعل كوشيب يهرب الى أفريقيا الوسطى ثم من هناك يسلم نفسه لمحكمة الجنايات الدولية ، ربما خاف من انتقام البعض اذا سلم نفسه لسلطات الحكومة الانتقالية ، او ربما ساءت ظروفه في هروبه وضاقت عليه الأرض بما رحبت ولم يجد من ملجأ الا إلى لاهاي ، لكن بكل تأكيد تسليم كوشيب لنفسه للمحكمة الجنائية خلق واقعا جديدا كلية ، تحول فيه دور المحكمة الجنائية من مراقب يستجدي الدول في القبض على المتهمين السودانيين إلى محكمة بيدها احد المتهمين .
في ظل وجود نظام البشير كان من العسير ان توافق المحكمة الجنائية على محاكمة داخلية لمن تتهمهم بمجازر الحرب والجرائم ضد الإنسانية بدارفور ، وذلك لان الدولة كانت شمولية ، فاسدة ، والقضاء مسيس وغير محايد ولا يمكن الوثوق بتحقيقاته وأحكامه. الآن هناك واقع جديد في السودان بعد ثورة ديسمبر المجيدة وانتصار شعب السودان على السفاح البشير واستعادة سلطة الدولة من النظام الإرهابي القاتل ، وهناك فرصة لإصلاح السلك القضائي والقانوني وبناءه بصورة مستقلة تجعله قادر على محاكمة جميع الجرائم بحيادية واستقلالية ، وهي الشروط التي تطلب المحكمة الجنائية توفرها في أي دولة لتتمتع بالسماح لها بمحاكمة مجرميها داخليا . وهو ما أشارت إليه المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية فاتوا بنسودا في أحدث تصريحاتها بعد اعتقال كوشيب .
بنسودا أعلنت عن استعداد المحكمة الجنائية الدولية للتعاون مع الحكومة الانتقالية للتحقيق في الجرائم التي ارتكبت بدارفور، بشرط أن يثبت لقضاة المحكمة أن السودان يقوم بتحقيق صادق مع المشتبه بهم ، ومحاكمتهم عن السلوك الإجرامي المزعوم نفسه في مذكرات اعتقال المحكمة الجنائية الدولية . هذا التصريح يفتح الباب لمحاكمة البشير عبدالرحيم محمد حسين واحمد هارون وغيرهم من المطلوبين داخليا ، رغم أن هذا الخيار لا يحظى بقبول السودانيين ولا الضحايا الدارفوريين الذين يطالبون بتسليم المتهمين لمحكمة الجنايات الدولية ، وهو موقف ربما ناتج عن عدم الثقة السابقة في نظام القضاء والتحقيق في السودان في زمان الإنقاذ.
المحكمة الجنائية في الوقت الراهن ليست في أفضل حالاتها، فهي تواجه انتقادات أمريكية حادة ، بالإضافة لانتقادات من اليابان وبريطانيا . أمريكا على لسان وزير خارجيتها بومبيو قالت بأنها لم توقع على ميثاق روما ، وقال بومبيو ان المحكمة الجنائية وجهت تهم لالف شخص ومن ادينوا منهم في النهاية كان أربعة فقط ، ويصفها بأنها محكمة فاسدة وغير ناجعة ، ويرفض محاكمة اي امريكي أمامها ويتوعد قضاة المحكمة بالعقوبات والحرمان من التأشيرات ان حاولوا معاقبة جنود أمريكيين أو مواطنين أمريكيين ام حتى حلفاء لأمريكا.
المحكمة الجنائية تمثل جزء مهم من الحلم الدارفوري بالعدالة ، ان يرى الذين تعرضوا للمذابح والفظايع هؤلاء المجرمين مكبلين في الاصفاد في لاهاي ، سيكون مبعث نصر لهم وسكينة نفسية بعد سنين من الصدمات والقلق النفسي والبكاء المتواصل ، ولكن يبقى ما ذكره وزير خارجية أمريكا عن تطاول امد المحاكمات بالمحكمة الجنائية وعن عدم نجاعتها في توجيه الاتهامات ، مصدر قلق للجميع ، خاصة اذا كان هناك ولو بصيص شك في أن المحكمة قد لا توجه تهم للمتهمين !
كوشيب الآن لدى المحكمة الجنائية وبقية المجرمين في سجون السودان، الحكومة الانتقالية وحاضنتها السياسية قوى الحرية والتغيير متوافقين على تسليم البشير للجنائية ، جلوس حكومة السودان والمحكمة الجنائية الى طاولة حوار لتقييم الوضع أصبح حاجة ملحة ، من أجل استكمال تسليم البشير او محاكمته بالداخل بمعاونة المحكمة الجنائية .
Sondy25@gmail.com