جلست بجانب أبي وأنا يافع في سنتي الأولي بالمدرسة الابتدئية، مسجي على ظهره كان، ينظرني بعينين حادتين عاطفتين، وابتسامة من نفث البراكين، ثم لم يلبث أن غاب عن الوعي، لم يساورني الشك في انه سيقوم كعادته من رقدته، وعمامته مطوية ينتزعها عن رأسه كما هي، “يخفجها” بكفه الكبير، فكأنها لازمة لزوم ما لا يلزم، أم لعله الاستايل يميزه عن غيره، يمسح بالكف الأيسر وجهه وشلوخه ثمانية، مقسمة عى جانبي وجهه، يبتسم، ثم يعقد ما بين حاجبيه، يخفض كتفه الأيمن فكأنما يساوي موقع القيطان في ياقة الجلباب.
ولكنني لم اصب في ظني، حين قفزت سور المستشفى ذلك المساء وأنا ابن ست سنوات، خفير المستشفى والناس كانوا في شغل عن الدنيا بالأنس وشراب الليمون وبرودته التي تبدد صهد المساء، يتسلون بالأحاديث التائهة في مجرة الطين، نظرت من “نملي” عنبر الرجال، الذي يصد البعوض.
لم يكن أبي هناك، كانت “مرتبته” مطوية مكومة فوق سريره، كتلة يحفها الصمت والريبة والسكون، وعلى المنضدة المجاورة، المروحة تدور نصف دائرة مرة إلى اليمن ومرة إلى اليسار، وعلب “فروطة” الاناناس و”عمود” الطعام، و”ترمسة” الشاي، لم تكن أمي هناك ولا اخواتي ولا أحد من عواده، وعلى السرير المجاور يتمدد السيد “كرن” رفيق ابي في العنبر، ممدد من اول مرة رأيته، فكأنما خيط على الفراش لا يحار انفكاكا، يقرأ في مجلة الاذاعة والتلفزيون، وعلى راديو الترانسيستور كان كابلي يغني “صنعت له من فؤادي المهادا” … كيف بدت حزينة حزينة موغلة في الأسى تلك الأغنية، منذ تلك اللحظة وأنا طفل لا اعلم ما هو الحب والحبيبة حزينة حتى هذه اللحظة، أزاح “كرن” المجلة عن وجهه قليلا ونظرني، لوح لي بيده مثلما يفعل عم عبد الباقي جالساً على عرش الميكانيكا، متوجاً من على مقعده العالي بقطار الديزل في محطة السكة الحديد، إشارة توحي بالنهاية، وعاد لمزاولة القراءة.
في ذلك المساء، تعرفت على الموت للمرة الأولى، كان الموت طوقاً على السماء أصفر اللون، يتمطي على امتداد الأفق المظلم للمدينة، تمدد في الطرق المضاءة والطرق المظلمة، وبلاط بهو المدخل النظيف، والأطباء يغدون ويروحون، صامتون لا يجيبون عن اسئلة الطفل، وسيارات الموريس البيضاء، رابضة تحت أشجار النيم، فكأنما كتب عليها الصيام عن الوقود، ولكن أحداً لم يدلني على مكان أبي.
تكومنا في “كنبة” أنا وابناء خالي، نمنا وسماء الجزيرة لا تضن مزاريبها بالماء، ونساء لايبخلن بذارف الدمع يعولن ويعددن، ورجال بعمائم ووجوه من حجارة العنت والصبرقٌدت، شيالون للاسى، حمالون للنائبات، عرفت منهم الأقرباء والجيرة والبلديات وموظفي المكتب رفقاء الدرب، ناس المحكمة والمجلس البلدي وعمال الصحة والملاحظين والمعلنين والسعاة والبنائين والدلالين وعمال المنطقة الصناعية والعساكر وتجار مانيفاتورة وبائعي خضرة وعتالة سوق وممرضين وترزية وساعاتية والفقهاء والائمة وضاربي الرق، ناس الروف ومارنجان والجزيرة بورد، وكيل البوسطة ناس الديم والمزاد والعشير،
ناس مية واربعطاشر والدرجة، ناس الأشغال والري، ناس القبة والصوفية، وعمي أبراهيم ولد عبد القيوم، جاؤوا به مسند بالحشايا، في تكسي الخرطوم الأصفر، توقف أما باب بيتنا، نزل منها ثلاثة أعمام فارعين، تاج السر الذي اسموني عليه ذو البشرة القمحية، وبقي هو داخل العربة يتلقي العزاء في أخيه الحسن، جاء من غرفة العمليات بمستشفي بحري، حديث الجرح وهو ينزف، جاء لود مدني، رغماً عن نصائح الاطباء.
جاء ليمنح أخاه الحسن فروض المحبة، جاء ليودعه، خلت أن السماء ابتسمت، انقشعت السحب وأنفلق الصباح، وأبي مسجي في البياض، ممدد في هيبة تليق بسليل الملوك، أزهر قلبي ذلك الصباح مثل بدر السماء، توحد الحزن الذي لا أدرك كنهه والكون والكائنات وإنشاد الرباب وطيور السماء نضت عن فتنة الحسن الحجابا، وبلغ الأمر لمن تقضي لديه حوائج البرية.
ثم شاء الذي تقضى لديه حوائج البرية، أن يكون إبراهيم أبي، وأن يعني بأمري، وأن أسمع ضحكته العالية المطمئنة، وأن أقتدي بزهده، وتواضعه وعلو هامته، والتزامه الصارم حد التضحية بالنفس، بكل ما آمن به، لا يقيم للدنيا وزناً وليس أجمل من أن تسمع لكنته الشايقية، حين ينادي أمي فيقول .. يا عاشي، ولعله ابرع من سمعته في عزف الطنبور.
أحب أهله وتنفس ارواحهم، أحب بناته الثلاث فغدون قرة عينه، كان لا يخاف مطلقاً ولعل في حادثة إصراره على تسليم مفاتيح صحيفة الأيام لمجلس قيادة ضباط الانتفاضة ابلغ مثال، ومشاركته لثوار اريتريا القتال.
التقيت في بيته بكثير من عظماء الدنيا ومن بينهم الذين غيروا مسار حياتي، ومن بينهم “حياتي” سائق الجيب الذي كان يأخذه إلى جريدة “الأحرار” كل مساء، لم يكن سائقه ولكنه صديقه، الكاتب العم “الريفي” صاحب صفحة”المرايا” ذلك الزمان، الطيب محمد الطيب رجل التراث، كان يفخر بي علناً ويناديني بالملك، محمد المهدي المجذوب قريبي من جهة الأم، فطاحلة مصوري الأعلام، صفيفة الحروف، وعمال التوزيع، كان يستمع إلى فكأنني الرجل الراشد وهو الطفل الذي ينصت في شغف للعلم.
أذكره في بهو فندق بالاسكندرية، في زيارتي اليتيمة لمصر التي احبها من قلبه، خرجنا من المصعد لبهو الفندق الصقيل، فما ادري إلا وهو قافز في الهواء يغني…
بشوف لي جني يقيف في الصف
ينط لااافوووق يطير يندق
لم يكن أحد من كبارنا يجرؤ على مثل هذه التعبير الأنيق، إلا هو فروحه لم تشخ حتى بعد أن تجاوز التسعين.
يحدثني بكامل وعيه وخفة روحه على الاسكايب… إنت يا ابو السرة يا ولدي قاع تجيب الكلام ده من وين.. من أجل الديمقراطية انتخبوا زكريا، ثم ينفجر ضاحكاً، ما ابدع فوضاه الخلاقة، حين نشر خطابا خاصاً كتبته له، في جريدة الاتحادي في القاهرة، قال لي وددت أن أشرك الناس في هذه المتعة، ما أعظم إبداعه حين ينقل لك “البلد” بكامل حيويتها، وأنت مستلب في المدائن البعيدة، لم ازر البلد في حياتي، ولكنني عشت ومشيت في طرقاتها وترابها، وعجنت الطين وتتربلت على يديه، من خلال عشقه لها،
النخل والكلام.. الدحلوب والجر والقسيبا والقادوس والقلة والطوب والفرن والقحف، الكبيق البالوص الخُماره الكادق الجُره المزهرية البلوك المزراب. الكرّاب النقاع الاشميق البوغة الكشّق اللقدابة البندِق الرقراق الآرنيق النوريق الصايح البسديق الكُشر الشرو الدُقُل، صنع ابراهيم من نسيج من كل أنحاء السودان ، فكان برداً وسلاماً علينا، عاش نقياً وخرج مثلما ولدته جدتي فاطمة بت عبد الله، ومثلما تمناه جدي عبد القيوم سوركتي ، رحمهم الله جميعاً.