الاختلاف وتباين الرؤى الذي يزخر به كل عمل عام يعتبر من الإيجابيات، وهو المؤشر الأقوى لتجويده والخروج به في أبهى وأكمل حُلّة.. واختلاف الساسة وانقسامهم ما بين حكومة ومعارضة في ممارسة الديمقراطيات يصبّ في مصلحة البلاد، ويفرض الرقابة على أصحاب القرار حتى يفكروا مليّاً قبل اتخاذ أي قرار، وتكون لديهم الحجة والأسباب المقنعة للدفاع عنه مهما كان.. وهكذا هو الحال الآن داخل تجمع المهنيين وقوى الحرية والتغيير اللذين حملا أمانة الثورة ومضيا بها حتى انطوت أسود صفحات تاريخنا الحديث.. وبدأت صفحة التحديات والعقبات وتفكيك عمق الدولة البائدة.
ولكن أن تشتعل الحرب في داخل هذا الجسم لينقض غزله بنفسه، ويهدم ما أسّسه من بنيان في ظروف أسوأ من تلك التي نعيشها الآن؟ فهذا ما يجب أن لا ندعه يحدث.. أصبحت أعيننا تزداد اتساعاً يوماً بعد يوم حينما تُجمع الخيوط حول جريمة ما ويُكشف النقاب عنها.. لنزداد يقيناً بأن خبث ودهاء زبانية النظام البائد تم توجيهه لامتصاص دماء شعبنا، ونهب ثروات بلادنا، كأنهم قد ورثوا خيراتها وامتلكوها وذويهم وكل من شايعهم.
التقى قادة تجمع المهنيين وشكّلوا قوى الحرية والتغيير، وشاركهم السواد الأعظم من أهل السودان الكبير بكل مكوناته واثنياته على أرضية إسقاط ذلك النظام المنبوذ.. وتشكلّت الثورة ولاقت ما لاقت من وحشية ورصاص وقتل وسحل ودهس وقمع وإذلال، ولم يزدها كل ذلك إلاّ قوّة وثباتاً وصبراً وإصراراً على الخلاص، وكانت ذات اتجاه واحد لا ثاني له.. (إما السقوط أو السقوط).
وتواصل دهاء وخبث مجرمي ذلك النظام الغادر عندما أيقنوا نهايتهم، فبدؤوا بتنفيذ المخطط البديل (لخلق الثورة المضادة) وتفكيك تلك اللُحمة والإتفاق الإجماعي بين فئات شعبنا العظيم بزرع الفتن والضغائن، ونشر الأكاذيب والشائعات، ومحاولات اغتيال الشخصيات ورموز الثورة، وشراء ضعاف النفوس من عشاق السلطة وأصحاب التوجهات المريضة من قيادات الأحزاب داخل التجمع (ممثل الثورة الحالي وقائد انتصاراتها والمكون الرئيس لحكومة الثورة الانتقالية).
وبالطبع لن نعفي بعض الأحزاب والتنظيمات ذات الأجندة الخاصة والساعية للوصول إلى السلطة.. ورغم كل هذا الزخم والإختلاف الطبيعي، لا يجب أن نفرّط في وحدتنا، وعلينا أن نتمسك بالتقائنا على أدنى أرضية، وهي اقتلاع ذلك النظام الغاشم، وتأسيس دولة القانون المدنية التي لا يهم بعد تأسيسها من يحكمها؛ لأنه سيأتي عبر صناديق الاقتراع، بقدر ما يهمنا أن يكون الحكم وفق دستور يحترمه الجميع (وقانون فوق الجميع) يحفظ حقوق مواطنه، وينظم عمل موظفي الدولة بمن فيهم رئيسها. وحتماً بوعي هذا الشعب وما تجرعه من ويلات طوال تلك العقود الثلاثة العجاف لن يتم التفريط في هذه الوحدة المصيرية، وحتماً ستنتصر إرادة الشعب الحامي الحقيقي لهذه الثورة، التي ستبقى جذوتها مستعرة حتى تحقيق آخر مطالبها.
ما يدعو للدهشة في زمن الكورونا العجيب.. خروج بعض الفلول في “مسيرات خجولة” تردد نفس شعارات ثورتنا الأصلية كهتاف (حكومة الجوع.. تسقط بس).. وقد نسوا أن الثوار أكَّدوها لهم من قبل عند محاولاتهم اليائسة بإثارة الشارع وخلق بعض الأزمات المفتعلة، فكان أن خرج الثوّار بكل الوعي وردَّدوا (الجوع ولا الكيزان) في أقوى رسالة تبيّن مدى رفضنا لهم.
دعونا نتساءل طالما أن لجنة التفكيك قد خاضت غمار ملفات شائكة وكشفت الغموض عنها.. أين وصلت التحقيقات في تلك القضايا المتعلقة بالتدمير الممنهج لكل مؤسسات الدولة ابتداءً من خطوط طيرانها لخطوطها البحرية فالنقل النهري والسكك الحديدية فالمواصلات العامة والباصات، وخلافه من مستشفيات تعليمية للجامعات.. الخ؟؟
كما نبدي استغرابنا أيضاً بالمناسبة عن سبب إطلاق سراح المدعو مأمون حميدة.. أم أن الرجل قد ثبتت براءته بالفعل؟ وإلى متى سنظل نشاهد معظم المجرمين طلقاء؟ وهل سيبقى حال من اعتقلوا كما هو بلا محاكمات؟.. هذا التأجيل فقط يؤرق مضاجعنا ناهيك عن معرفتنا بنقل بعضهم إلى أرقى المستشفيات بدواعي إصابتهم بجائحة كورونا أو أمراضٍ أخرى؟؟
حكومتنا الانتقالية الموقرة.. نذكركم بأن أولى أولوياتكم هي محاكمة رموز النظام البائد ومجرميه.. وقتلة شهدائنا الأبرار منذ العام 1989م.. ويكفينا الاستخفاف بهذا الشعب العظيم، فإن غضبته لم تهدأ بعد.. وثورته لن تكتمل أركانها إلاّ بتحقيق كل أهدافها.
نعلم يقيناً أنكم لم تستلموا مقاليد السلطات تماماً، وأن هنالك أيادي خفية تعبث ببعض الملفات الخطيرة وتتراخى في تنفيذ بعض قراراتكم.. ولكن.. الحذر ثم الحذر من التشرذم.. ويجب أن نبقى متيقظين لهذه المرحلة المفصلية من تاريخ سوداننا الحبيب.. ونضع مصلحته في حدقات عيوننا ونعمل من أجلها ونظل عوناً لبعضنا رغم كل اختلافاتنا، ونتغاضى عن المثبطات التي ستعود بالنفع للمعسكر الآخر.. وبعد عبور هذه المرحلة الإنتقالية والانتهاء من ترتيبات وضع الدستور الدائم للبلاد.. فليأتِي من يأتي ليحكم.. وسنكون قد صنعنا حينها نظام الحكم الذي يرضينا كشعب، ويحفظ لنا كرامتنا وعزّة بلادنا ورفاهيتها.
يونيو 2020م