كثيرا ما نسمع بجملة إدارة التنوع، فكيف تكون إدارة
التنوع؟ المقصود بالتنَوع في تقديري هي التباينات الكثيرة في مجتمعات الشعب،
التباين في الأعراق، ( زنوج وعرب و نيليون وبانتو وغير ذلك)، وفي الألوان، (
سود وسمر وصفر وغير ذلك)، ثم التنوع والاختلاف العقائدي، ( مسلمون ومسيحيون ولادينيون
وعبدة كجور، وخلافها من كريم المعتقدات الكثيرة لأهل السودانية، في مسألة
العبادة والأديان السودانية)، ثم التباين القبلي، واللغوي،(نحو أربعمئة لغة، ولا
أقول رطانة، لأنها كلمة تستخدم فقط للتعالي) والثقافي، (المفاهيم المنبثقة عن مجمل
التوجهات الآنفة الذكر، وما يتبع ذلك من ثقافات وعادات وتقاليد).
فكيف ندير التنوع في مجتمعاتنا السودانية؟ تكون إدارة
التنوع بالاهتمام بالموروثات، وبإفساح المجال لكل هذه الفسيفساء المجتمعية،
لتعبر عن نفسها في حرية، و تعرض إبداعاتها في شتى المجالات، وأن تكون الدولة على
مسافة واحدة من كل هذه الثقافات المتنوعة، والديانات المختلفة، والعادات والتقاليد
المتباينة، على الدوام لتنمو نمواً طبيعياً في البيئة السودانية، وأن تكون
مؤسسات الدولة، حاضنة حانية لها جميعها، ما يتيح الفرصة لكل مواطن أن يجد نفسه في
هذه الدولة بحسبانها وطناً للجميع، بدون إقصاء لجماعة، أو تهميش لفئة، أو اضطهاد لمجموعة،
على أساس الدين، أو اللغة، أو الثقافة، أو الانتماء لمجموعة ثقافية، أو عرقية، أو
غير ذلك؛ كي تتمكن الشعوب السودانية، من اكتشاف بعضها، ودراسة ومعرفة فنون
وآداب وعميق تراث بعضها، بتسليط الضوء عليها، وسبر أغوارها، للتفاعل معها والانفعال
بها. فالتعارف والمعرفة، هي المفتاح السحري لهذه العملية.
ومن ثم الشراكة في حركة الحياة، والاشتراك في كل
مؤسسات الدولة، بوصفهم أبناء بلد واحد، وشركاء مستقبل واعد، يشتركون جميعاً في
صنعة، والدفع به، إلى أعلى مراقي البناء، والحفاظ عليه، والدفاع عنه، فيتقاسمون
الأعباء، ويتحملون المسؤولية الوطنية.
الناس أعداء لما جهلوا، والمثل السوداني يقول”الما
بعرفك ما بعزك”، وفي الواقع، الناس في السودان يميلون إلى عداوة من لا
يعرفونه، حتى يتم التعارف معه، فإذا تم التعارف، تنشأ حميميتهم الأبدية، حتى ولو
كان التعارف إثر مشاجرة.
ولا نعني بالتعارف، هنا، التعارف السطحي مع الآخر،
ولكن عندما نتعمق في ثقافة مجتمعاتنا، سنجد أننا شعب يتمتع بكنوز ثمينة جداً، من
موروثات مشتركة، تستحق البحث فيها، والتنقيب عنها، فلو أخذنا فقط لغات أهل السودان
مثالاً، فالكلمة، أي كلمة، بالطبع، هي عبارة عن وعاء فكري، تحمل فكرة، فكم هي
الأفكار، التي تحملها كلمات وعبارات اللغة الواحدة، ثم ما هي الأفكار التي تحملها
كل لغات أهل السودان مجتمعة من ثراء في هذا الجانب، وما هي تجربة كل لغة في
عملية إنتاج الأصوات، وبناء الكلم، وصياغة الكلام، واحتواء الافكار، واستخداماتها
للجهاز الصوتي، وما إلى ذلك. لو كانت الحكومة والشعب السوداني ملتفتين لأهمية
المعرفة والتفاعل البيني لأبناء الشعب، وكشف إشراقات مجتمعاتنا الإبداعية
المختلفة مبكراً، لكنا أكثر تماسكاً، وأشد تفاعلاً، ولأذبنا الفوارق البينية،
وربما لم نكن لنشهد انفصال جنوبنا الحبيب.
في كتابه طائر الشؤم، يروي الدكتور فرانسيس دينك، عن
محكمة عّقدت في الخرطوم، لمحاكمة صبي من الدينكا، في قضية سرقة! فكانت مثار تندر
وإزدراء، في أوساط قبيلة الدينكا في الخرطوم، للمجتمع السوداني الذي لا يعرف أن
الدينكا، بحكم عاداتهم، و تقاليدهم، يستحيل أن يسرق منسوبهم، مهما كانت
المغريات، وتحدث في ذات الكتاب، عن عفة شابات وشباب الدينكا، وإيثارهم للآخر، ولو
كانوا في أمس الحاجة. عندما فرغت من قراءة الكتاب (طائر الشؤم)، أحسست بأن كل
دينكاوي يستحق التحية في أي منعطف. وقس علي الدينكا كل قبائل السودان، لو إكتشفنا
روعة ما تتمتع بها من عادات جميلة، وقيم رفيعة، ومفاهيم راقية، وفنون مبدعة، وحكم
وأمثال، لكنا أمة صلبة التماسك، ولكن في لهثنا للبحث عن الكمال الإنساني، بعيدا عن
الوطن، وعن أهل السودان، لم نتمكن من ثرائنا الوطني، ونسينا أن في السودان أرض،
وأن في السودان سماء، ولو أن هناك ثم كمال إنساني نريد بلوغه، ففي الإمكان أن
نبلغه هنا في السودان، لا بالبحث عنه بعيدا، كما هوالحال لدى البعض، من أبناء هذا
البلد، المنهزمين نفسيا، ولم يتمكنوا من التصالح مع ذواتهم، وخرجوا ينشدون الرفعة
بعيدا، يمنون أنفسهم الكمال في بلاد الآخرين، يود أحدهم لو تأخذه أصله الى خارج
السودان، ولا يعلمون أن المدينة سودانية، وأن الحضارة الإنسانية ايضا سودانية
بإمتياز. هنا على ضفاف نيلنا العظيم، حيث بدأت قصة الإنسان.