التجارب الناجحة في الاستفادة من طاقات الشباب الجسدية القوية النشطة وعقولهم المتفتقة ومواهبهم المتجددة وذكائهم المتقد امثلة متعددة في عالم اليوم آتت أكلها وثمارها تطوراً ونماءً سبقت به دول مثل اليابان وكوريا واندونيسيا والصين وماليزيا وتركيا كثيرا من الدول التي لا زالت في تأخر تعليمي شديد وصناعي متخلف بسبب ضعف التخطيط وسوء الإدارة وعدم توفير الامن والاستقرار والتوظيف غير المتقن والمفيد لمدخرات وخيرات وشباب الوطن..
ولعل اظهر الدول في هذا التخلف التقدمي والتنموي وعدم تسخير الطاقات الشبابية في ما ينفع هي وطننا السودان.
والغريب في امرنا هذا هو توفر اهم عناصر النجاح في التطور والتقدم المتمثل في الكفاءات والخبرات العلمية الشبابية والناضجة ذات التجارب التي تظهر وأظهرت تفوقها ونجاحها خارج نطاق الوطن واقعا ملموساً ويشهد بذلك المستفيدون في الدول التي عمل بها هؤلاء سواء كانت دولا متقدمة كأمريكا والغرب او اخرى كانت متأخرة وأسهم السودانيون ذو الكفاءات في نهضتها>
إذن أين تكمن مشكلتنا كدولة وشعب؟! الإجابة بسيطة جدا يعرفها ابسط سوداني وهي سوء الإدارة المتسبب فيه (مكونان) لدينا وهما المكوّن السياسي من احزاب وكيانات أخرى أيا كانت والمكوّن العسكري والأمني وهما سبب الفشل والتأخر الذي ما زال يجثم على صدر هذا الوطن… وعيب المكون السياسي قصر نظرته في استحوازه على السلطة وتقديم مصلحته على مصلحة الوطن والشعب عامة وسوء ادارته للبلاد ..أما عيب المكون العسكري والأمني فهو تركه لمهمته الأساسية حفظ حدود الوطن وعند الحاجة إلى الطوارئ وامتهانه للسياسة بسبب إخفاق المكون السياسي وإفلاسه عند الاختلاف بين مكوناته… واصدق مثال مايعيشه الوطن اليوم من تعاسة وتشظٍ في اقتصاده وأمنه واستقراره السياسي والمجتمعي وانشطاره الى نصفين شمالي وجنوبي وسلب اراضيه في الشرق والشمال بسبب تجربة حكم انقلابية امتدت 30 عاما خاضها حزب الجبهة الإسلامية استعان فيها بضباط من المكوّن العسكري للدولة وتمخض منه في ما بعد حزب المؤتمر الوطني وحزب المؤتمر الشعبي والحركة الإسلامية.
والورطة التي نحن فيها الآن بعد نجاح ثورة 19ديسمبر 2019 الحالة المتوترة بين القط والفأر وما يحدث من نشوب خلافات خفية وظاهرة بين المكونين السياسي والعسكري اللذين جمعتهما الظروف فقط في ما هما فيه من مشاركة في إدارة الفترة الانتقالية وليس هما على اتفاق مسبق في هذه المشاركة كما حدث في الثورات السابقة.. لماذا؟؟ لأن المكون العسكري كان جزءاً مؤثراً وشريكاً بل ومصنوعاً من نظام الانقاذ البائد ومن الواضح جد أن هذا المكون العسكري بسبب تعلقه بالنظام الذي اقتلعته الثورة ومنذ ولادتها كان يناور به ويستغله الذين كانوا قائمين بشؤون حكم الانقاذ ويخترقون به الكثير من قرارات ومكتسبات الثورة (محاولات الانقلاب.. التشاكس والاختلاف مع المدنيين زملائهم في الحكومة الانتقالية … فض الاعتصام ومحاولة الانقلاب على الثورة… التلكؤ وعدم الجدية في مواجهة تحركات ومظاهرات الكيزان وحملتهم الإعلامية المضادة.. إلخ)>
كل الثورات التي سبقت كانت متحدة الأطراف إلا أن ثورة 19 ديسمبر 2018 التي فجرها الشباب من الجنسين والقائمين على تنظيمها واجهت ومازالت تواجه بمعارضة وعرقلة متواصلة لتكملة مشوارها لتحكم وتدير الوطن في مرحلة انتقالية من أهم المراحل لتنقلنا إلى وطن ديمقراطي وانتخابي حر يسع الجميع وتضعه في خطه الصحيح بين الدول ويصبح دولة مدنية ودولة مؤسسات وبالتالي يرجع المكون العسكري إلى ثكناته ليقوم بمهمته الأساسية..
إن معارضة الثورة من حزب المؤتمر الوطني المحلول ولمن قاموا بها من الشباب والداعمين لها من مكونات متعددة مختلفة التوجه والسياسات ولكنها متفقة في تأييدها للثورة ومن ضمنها الحزب الشيوعي، ليست ( أي المعارضة) من أجل الوطن ولا شعبه بل هي مصلحية لأنهم يستغلون الحزب الشيوعي -عدوهم- شماعة يعلقون بها انتقاداتهم ويشوهون بها وطنية الثورة وصدقية من قاموا بها وجعلوا انتقاداتهم دينية صرفة متجاهلين التزام معظم الشعب السوداني بالعقيدة الإسلامية في سلوكهم واخلاقهم وعباداتهم لدرجة أن من يسمعهم في مظاهراتهم وصحافتهم واحتجاجاتهم ونقدهم للحكومة الانتقالية يظن او يعتقد ان هذا الشعب بأكمله سيفقد إسلاميته وتدينه وستغلق مساجده ودور تعبده بمجرد أن يحكمه اي سوداني آخر لا ينتمي لحزبهم رغم انهم يعلمون ان الدول العربية الإسلامية او غير العربية الاسلامية اكتسبت الصفة الإسلامية من إسلامية شعبها لا إسلامية من يحكمها او اسلامية حزب معين.. فليس هناك ما يمنع لدينا في السودان ان يطرح اي حزب من الاحزاب برنامجه السياسي لإدارة الدولة في برنامج انتخابي حر وديمقراطي ومن يجد القبول والفوز فسينال استحقاقه في ذلك..
ولكن كما بدا لنا من خلال حكم نظام الانقاذ خلال 30 عاما انه هيمن وسيطر على كل مفاصل الدولة وهمش الاحزاب المؤثرة وصنع احزابا هزيلة هيمن عليها ولم يكن نصيبها من الحكم معه إلا الفتات .. ولو كان حزبه المؤتمر الوطني المحلول هدفه الوطن والصالح العام فعليه ان يكون عادلا فليس من المنطق والعدل ان يظل بمكتسباته المادية والعينية التي اكتسبها واعوانه بغير وجه حق حين عزل وابعد واقصى كل الاحزاب وظل وحيدا يأمر وينهي ويسيطر ويهيمن وعليه ان يرد ذلك الى الشعب ويطالب بمنحه فرصة التجهيز والاستعداد لخوض الانتخابات بعد انتهاء الفترة الانتقالية مثل الاحزاب الأخرى… وتكون لدينا مؤسسات حكم رشيد ودستور متوافق عليه يسير به حكم البلاد ونخطو من نجاح حزب فاز لمدة معينة إلى نجاح حزب آخر فاز في انتخابات أخرى لمدة متساوية لمدة من سبقه لا ان يظل الوطن في تقهقر وتراجع بسبب عدم توفر عوامل إيجاد الحكم الرشيد الذي يؤدي الى التطور والتقدم>
وكمثال صادق ومتميز في الاستفادة من الطاقات الشبابية في تطور الأوطان النموذج الماليزي الذي اخرجها من ازمات مستفحلة رغم قلة مواردها وإمكاناتها التنموية وكانت تعيش مشكلات عديدة فقد استطاع رجل المرحلة والرجل الذي سطع نجمه في سماء السياسة الآسيوية مابين 1981- 2003 رئيس الوزراء مهاتير محمد ان ينقلها بالاستغلال الأمثل للشباب من دولة زراعية الى دولة صناعية متقدمة حيث بلغ ناتج الصناعة والخدمات 90 في المئة وصادرات السلع المصنعة 85 في المئة.. وصارت من البلاد التي يُشار إليها بالبنان في التقدم الاجتماعي والنماء الاقتصادي والصناعي والزراعي.
فهل يستطيع السودان أن يخرج من عنق الزجاجة إلى بر الأمان ويسخر طاقات شبابه المتوهجة والناضجة والمستنيرة التي ظهرت وتجلت في التغيير الذي صنعوه بعرقهم وتضحياتهم بنفوسهم وأرواحهم ودماء الشهداء ونزيف الجرحى وألام اسر المفقودين وفجروا ثورة ديسمبر المجيدة؟؟!! …
… الرياض