تشكل فنيات تحرير وإنتاج الأخبار والمواد الإعلامية المسموعة والمرئبة ضمن سياقات، ومعطيات الحرية الإبداعية التى توفرها السياسة التحريرية المُقترحة بالمؤسسات الاعلامية المحددة.
والخبر منذ قديم الزمان إما أن
يكون مكتملاً، كالجملة في المخاطبة، أو التدوين المكتوب أو لا يكون مفيداً؛ بحكم تقاليد
الصحافة المتطورة والمتجاوزة للمفاهيم والتصورات التقليدية.
فالمثل الذائع الصيت القائل:
“إن الخبر ليس في أن يعضّ الكلب رجلاً، وإنما في أن يعضّ الرجل كلباً”
يصبح وربما بتطور الخدمة الخبرية، ونمو صناعاتها، وتوسع مدارسها واتساع أسواقها
غير كافٍ، بل من المُرجح، ألا يصبح شافيّاً لغليل القراء أو المستمعين أو
المشاهدين الذين ربما سينتقلون الى توقع خبر جديد يتصل بالرغبة في معرفة ما حدث
للكلب بعد أن عضه الرجل.
ذلك ربما تعضده وتؤيده ردود
أفعال أقسام أو شرائح الرأى العام ضتحت أثر تنامي الدافعية للاستهلاك الخبرى
والمعلوماتي في معرفة المزيد والتحقق خاصة عما إذا كان الرجل بعد عضه للكلب قد
أورث الكلب مرضاً أو غيره.
إعلامنا في عهد التكميم
والتمكين السياسي، والأمني، وقصف البناء المهني فقد كثيراً من قواعده المهنية، ومن
ثم بريق الابتكار والجاذبية، فبات من شدة المكرالمؤسس، والتحايل السائل ناصيةً
مكشوفة؛ لإبانة الغرض، وعرضه في واضحة النهار باستهداف المارة من المستهلكين والعابرين
من المتسوقين، ينشر فيهم الأذى، ويبث البلبلة بخلق التمايز ما بين صفوفهم، وضرب
وحدة افتراضية جديدة او مفترضة نهضت فكرتها واستقامت بعد الثورة.
يحدث ذلك ليس بسبب الجائحة
الصحية المتفاقمة، ووطاة المصائر المعتمة التي أنتجها ذيوعها، ولكن بسبب الارتباط
التربوي البيداغوجي بمناهج الراعي السياسي الأب، الذي لا يزال يناور عبر سدنته،
ومدفوعي الأجور في مشهد الإرباك المنهجي للرأي العام بإثارة سياسية غدت معتادة منذ
عقود ثلاثة على وجه الدقة.
نحن إذن في مواجهة علة متوارثة،
عنوانها: ازدراء التطور، في مجمل فكرته، بسبب تحكم سلطة خرقاء خالفت التنظيم
والتدرج، وتلقي المعارف المهنية في أوضاع من الغفلة أو الإقصاء السياسي والأمني
الذي أطاح بمنتجات العلم والتواصي على كلام الإبداع العقلي باتخاذ المواقف المضادة
من العلم، وتسريب الغش المنظم بالمهن الإعلامية.
وتظلّ أوضح ظواهر التزوير والغش
مخدومة بتحكم آليات الاقتصاديات الاعلامية المرتبطة بالملكية السياسية السابقة
لأجهزة ومؤسسات الدولة في التعليم، والممارسة الإعلامية. فعدم المهنية المتصل
بانحسار القابلية على التعلم والتطور كوباء ساحق، متنقل، مستجد يكاد يقوم بأخطر
عمليات الهدم السياسي والأخلاقي، والاجتماعين والثقافي معاً، وبادارة واحدة متحدة
في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ السودان، حين يمرر كثيراً من أجندته غير الوطنية
السالبة، والهدامة، التي تؤدي – عن قصد ومن دون قصد – دور الراجمات الرمزية
للمصداقية والأخلاقية، بإبعاد تام، وإنكار حاد ومطلق لأهمية توافر ميثاق شرف يجمع
بين أعضاء هذا المجتمع المرجو أن يتشكّل بنحو جديد بعد الثورة.
وإذا كان هنالك قسم من المنتمين
للمهن الإعلامية قد قدم من نافذة الهواية، أو التأثر الحاد بعطالة غامضة، ورغبة في
التكسب غير المباشر، الملتوي، فإن تلك الفصائل من الصحفيين والصحفيات ستكون قد أفلحت
في تحويل إعلامنا إلى إعلام رأى وإثارة أكثر من أن يكون إعلاماً مهنياً يتصف
بالطرافة والاستقلالية، والمعرفة الدقيقة بأسرار وأعراف حديثة.
لقد تحوّل الانتماء للمهنة إلى انتماء
دون متطلبات أو شروط حيازة ضرورية لقدرات متميزة ومواهب فذة في البحث والاستقصاء
الخبري الصحافي، والإعداد والتقديم والاخراج المسموع والمرئي؛ مستسهلاً المهنة
ومحورا لصفاتها الجوهرية.
أكثر من ذلك، فإن الاصابة
القاتلة التي سوف تظهر سلسلة من الممارسات الفاسدة، كانت قد اختلطت بمادة العلاقات
غير النزيهة مع المجتمع السياسي الحاكم السابق، حيث توزع الإعلاميون الممارسون على
مراكز القوى السياسية والمالية البائدة، فتكسّبوا من انفلات المعايير الضابطة والرشى
المنتظمة، والرعاية الأمنية نظير انخراطها في الحملات الترويجية الخادمة للشخصية
المسؤولة، أوالمؤسسة الحاكمة.
فمن بين هؤلاء نعثر على من يعرض
نفسه حتى اللحظة في السوق الإعلامية لما بعد الثورة كمهني مستقل، فوق القانون
السياسي، بنسيان متعمد لحقيقة أن القانون السياسي مثله مثل القانون الاعتيادي لا
يجيز لأحد أن يعلو فوقه.
ولكن وبسبب فساد إداري سياسي
يستمر في حكم المجال الاعلامي لا تتمكن الغالبية من الافصاح عنه لتعقيد في خارطة
المصالح، وكذلك بسبب تركة الخوف التاريخي المثقل من السلطة.
فنحن لم نتمكن من إنجاز التعافي
الكامل من أعراض عدم القدرة على مواجهة تلك النماذج والشخصيات التي لا تزال حية
ترزق إعلامياً، ترفع من عقيرتها نهاراً في إثبات عشق معلن للتغيير والثورة، بينما
تمكث وتقضي ليلاً في صداقة وتواطؤ مضاد لذلك.
ما كنت شاهداً أصيلاً عليه،
ولطبيعة مشكلاته يجوز وصفه بالفساد التكويني المهني التعليمي، أو التدريسي للإعلام
بالجامعات.
ان ما أعنيه بفساد التكوين
المهني هو فساد التكوين العلمي الإعلامي لنسبة قد تشكل الغالبية من حاملي الدرجات
العلمية العليا في تخصص الاعلام بصفة عامة، والصحافة على وجه الخصوص.
فغالبية العاملين على التدريس في الحقل كانوا
طلاباً او طالبات بمؤسسات أكاديمية داخل أو خارج البلاد تسنت لهم فرص التفوق الأكاديمي
ربما، والتحضير بالمجالات المتنوعة للإعلام ومنها الصحافة.
هؤلاء امتهنوا التدريس دون سابق
علاقة مهنية تطبيقية عملية بالتخصصات الإعلامية، وأتبعوا طرقاً نظرية لتدريسها من
مناهج تدريس جامدة سكتت عن التطورات اليومية التي تسربت إلى المجال، خاصة بعد تفجر
الثورة المعلوماتية والتقنية، وإحلال الاتصال أو التواصل الالكتروني محل ما كان
يسمى إعلاماً.
لقد تم تدبيج المناهج والمقررات
بكل ما قد لا يفيد كتائب الخريجين والخريجات في الحياة العملية.
صاح رئيس تحرير سابق لصحيفة محترمة، كان قد صعد عبرالممارسة
التاريخية للمهنة، وطالب بإبعاد من يسمون بخريجي كليات وأقسام الإعلام، وبأن يغرب
هؤلاء عن وجهه تماماً بما يحملوه من محتوى اعلامي نظري يجافي – بوجهة نظره – ما
تعلمه هو عبر مسيرته وتجربته العملية فى الصحافة.
من من الصحيح – نتيجة لجمود
مناهج التعليم الإعلامي: الصحافي والإذاعي والتلفزيوني- نشوء جفاء حقيقي لدى جمهور
الطلاب والطالبات الذين تلقوا معارف غير تطبيقية وغير مواكبة لمستجدات العلوم الإعلامية.
وكنت قد فوجئت قبل أشهر في زيارة لي للسودان في أثناء تقديمي محاضرة عن الإصلاح
الاعلامي بالمرحلة الانتقالية بدار الحزب الجمهوري بأمدرمان بأحد الخريجين يطلب
الحديث، ويحكي الواقعة الآتية:
قال الخريج – الذي يبدو أنه حرص
على حضور المحاضرة لسكنه قريباً من موقع الفعالية، ولمحبة قال أنه يحتفظ بها لشخصي
بوصفي أستاذاً سابقاً له- إنه قد تخرج في بداية الألفية في أحد أقسام الإعلام في
إحدى الجامعات، وحدث أن التقي طالباً بالسنة الثالثة بالقسم قبل شهور، فسأله عن
مادة كان يدرسها لهم أحد الأساتذة، عما إذا كانت لا تزال موجودة؟
قال: أجاب الطالب بنعم.
فسأله الخريج: هل دكتور فلان لا يزال يقوم
بتدريسها؟
أجاب الطالب: نعم
ثم سأل: وهل يا ترى لا يزال
نموذجه التطبيقي لكتابة التقرير الصحفي هي واقعة انقلاب بص بركاب في المنطقة
الفلانية بشمال السودان؟
أجاب الطالب: نعم
عرج الخريج المتحدث أمام الجمع إلى
الاعتراف بانه لم يعمل منذ تخرجه في التخصص، ولم تتوافر له اجابة دقيقة عن سبب ذلك
إلا بعد مقابلته لهذا الطالب، واكتشافه كساد البضاعة الصحفية التي اشتراها من
قاعات الدرس الجامعية.
نخلص إلى أن كلا المدخلين
للولوج والانتماء لمهنة الصحافة وبقية المهن الاعلامية قد انطويا على شرهما الخاص،
ومكونهما الطارد من المهنة، مما يشكّل أحد أسباب المأزق الذي تعيشه الاعلام الحالي
بالسودان. فالنموذج الأول – بسبب قصور تعليمي متخصص – ربما لم تتوافر له الخيارات
الدراسية مبكراً، لذا اضطر إلى خوض التعليم الإعلامي بصفة فردية عصامية اعتمدت على
التجريب، واكتساب الخبرة من الآخرين ممن سبقوه في المجال، فأصبح بالتالي معتداً
بما تعلم وكسب. اما النموذج الثاني، فقد اعتمد على المعلومات العلمية النظرية غير
التطبيقية مدخلاً لبناء علاقة به.
ولأنه ليس هنالك أزمة او مأزق
بلا وصفات علاجية، يبقي أن نتذكر أن أهم وسائل الدعم المهني (السريع) للمهنة المتأثرة
باعتلالات بنيوية شتى يتمثل في إطلاق الدورات التدريبية المتنوعة في التخصصات
الدقيقة، وخصوصاً في نطاقات كالإعلام الاستقصائي، والتعرف إلى أحدث التطورات
الجارية ارتباطا بالتحرير الإلكتروني، ومحددات القاموس الصحفي، والإيجاز اللغوي،
وأخلاقيات المهنة الصحقية.
يتم ذلك بتزامن مع تأسيس معهد
عالٍ للصحافة والإذاعة والتلفزيون، الذي يجب أن ينصرف بكلياته الى الدراسة
التطبيقية والإنتاجية للإعلام المتخصص بواسطة خبرات إعلامية وأساتذة واكبوا
واستوعبوا التقدم الهائل في المجال.
وبالطبع، ليس التطور المهني وحده
الذي يستطيع أن يقيم أوضاعاً متماسكة للإعلام بالبلاد، وإنما لا بد أن تتوافر
سياسات حكومية داعمة، ومشجعة على النهضة الإعلامية العامة عبر الخطط، والبرامج، والتسهيلات
الضريبية لمواد وأجهزة الطباعة، ووجود تشريعات مرنة تحقق للصحفيين والصحفيات
الحريات المهنية الكافية، وحريات التعبير الاستقصائي للمعلومة، والخبر.
نعم، نحتاج إلى إصلاح في
البنيات التحتية والفوقية لممارسة مهنة الإعلام بإدراك أن ذلك لن يكون نزهة أو
أمراً سهلاً ما لم نتوحد في الأخذ والعمل بالمفاهيم العلمية، وكذلك الذهنية
العلمية، بوصفها مدخلاً وحيداً، ومعياراً لا مفر من الأخذ به في علاقتنا بأسئلة
التطور العام وارتياد أفق جديد.