يظل المسرح أبو الفنون، وصاحب القدح المعلى ضمن منظومة الثورة الفنية؛ وذلك بإمكاناته الإبداعية في نشر الوعي، وطرح القضايا الوطنية.
ما عرض حتى الآن على مسارحنا، هل يعبر عن عمق ثورة بعد التغيير الكبير في المشهد العام؟ وإلى أي
مدى استفاد المسرح السوداني من التحول السياسي والفكري الذي انتظم البلاد. سؤالان،
وغيرهما، يجيب عنها أهل المسرح، ونقاده.
الناقدة ميسون عبد الحميد :لم نتحرر بعد من التحرر من أثر الديكتاتوريات
نحن لم نحقق الثورة اللازمة حتى يكون في وسعنا الكلام عن أين المسرح
من الثورة، أو ما بعد الثورة. طبعا هناك ملامح ومحاولات لإنتاج مسرح ثوري، لكن
كلها مجرد ملامح من دون أن يعني ذلك أننا بصدد طريقة تحليل جديدة.
وأظن أن
الاضطراب السياسي الماثل هو إحدى الإشكاليات، فمن ناحية نحن نحاول أن نجيب عن سؤال:
ما هو المسرح؟ وماهي الثورة؟ ومن ناحية أخرى نحن في مرحلة دفاع عن الذات بآراء
تحديات المرحلة دون أن نخوض في تحليل معمق، وبالتالي نحن في مأزق هائل. وهنا لابد
أن يعمل المسرحيون
على تحرير أنفسهم من وهم الخلاص في العمل السياسي المباشر؛ لأن هذا يقودهم إلى التواطوء
مع السلطة، وأن يعملوا في مقابل ذلك على إنتاج الأفكار التي تخدم الثورة، وتمهيد
الطريق إلى التحرر عبر تحرير العقل بمختلف الوسائط.
وإذا رجعت إلى
سؤالك أين موقع المسرح من الثورة في
الواقع أن المسرحيين لم يخض فكرهم أو إنتاجهم المسرحي مع قلته في أعماق الأسئلة
المرتبطة بسؤال التغيير والثورة، فرغم أن الأغلبية العظمي شاركت في ثورة ديسمبر أبريل
المجيدة، وهي ملهمة لكثير من الأفكار المسرحية، إلا أن المسرحيين لم يستفيدوا منها
بالقدر المطلوب، بخلاف عدد قليل من المسرحيين.
إن مسألة الثورة لم تساعدهم على طرح أسئلة جذرية، ربما لأننا المسرحيون لم
نتمكن بعد من التحرر من أثر الديكتاتوريات، ومن الماضي المظلم طوال ٣٠ عاما من
الطغيان تبلد فيها الإبداع، ولكن استمرار هذا يعني أن هناك إشكالية قائمة، ولابد لي أن أطرح أسئلة جديدة تواكب
هذا التغيير الثوري الكبير بعيداً عن اسئلة المسرح التقليدية.
إن فاعلية
المسرح تكمن في تصدية لأسئلة حاضرة للتوصل إلى معرفة مشكلات الواقع، ولذا يجب أن
نطرح قضية المسرح والثورة هنا من زاوية السؤال الذي يطرحه الواقع السوداني بعد
ثورة ديسمبر ابريل. فبكل تأكيد نقلت الثورة الواقع السوداني إلى واقع جديد،
وصراعات جديدة كصراعات الأحزاب، وتجمع المهنيين مثلاً. ولم يتمكن المسرحيون من
إنتاج تنظير مواز له رغم جهود كثير من المسرحيين في تقديم مسرحيات عن فضّ الاعتصام
(كراسة حساب) لجماعة صناعة العرض المسرحي، ومسرحية (تجنيد إجباري) لياسر عبداللطيف
وغيرهما من التجارب.
إن الفنون تسبق
التنظير، وفضاء المسرح يتيح إمكانية كبيرة لإبصار تأثير الثورة، وكل التحولات
والصراعات على مستقبل سودان ما بعد الثورة، والمسرح لا يمكن أن يكون معزولاً عما
حوله حتى وإن تأخر تفاعله الراهن…
الناقد على سعيد : المسرح في مرحلة اختزان وتأمل وإنضاج للرؤى
السؤال عن موقع
المسرح من الثورة هو سؤال تتعدد مستوياته، ومداخل تناوله وتحليله، فمن زاوية نحن
نزعم – وتؤكد ذلك إشارات التاريخ- أن المسرح في السودان كان حاضراً في لحظة تفجر
الثورة، فهو ومنذ إشاراته الاولى انتظم موقعه في الحياة الباطنية للشعب، وأسهم عبر
مسيرته في ترسيخ نظرة التغيير للواقع (نعم ربما لا يكون ذلك بالقدر المطلوب ولكن
ذلك لا ينفي وجوده ومساهمته)، فالمسرح السوداني كان حاضراً في الوعي منذ الاستعمار،
وقدم نقده وإضاءته ومساهمته في التثوير، وبعدها سلط ضوءه في نقد تركة الاستعمار
الثقافية، وأسهم في ترسيخ الدولة الوطنية ووحدة المجتمع السوداني؛ مستصحباً وداعياً
الى احترام تنوعه وتباينه الثقافي.
واستمر بوتائر
ترتفع وتنخفض باثاً الوعي والتنوير، والنقد الاجتماعي والسياسي، وهذا عطاء يصعب
فصله أو إنكار قيمته بطبيعة الحال في تكثيف الوعي، وصولاً إلى ذروته في ثورة
ديسمبر، وهي ليست وليدة لحظتها التاريخية، بقدر ما هي تتويج لمسيرة الوعي السوداني
وتكونه وتطوره عبر الحقب.
كان المسرح
موجوداً في ساحات الاعتصام معبراً عن أشواق التغيير وضرورته، سواء في المركز أو
الولايات، وهو حراك موثق وفاعل .
من زاوية ثالثة إذا
كنت تعني دوره في مرحلة ما بعد الثورة، فهي لم تبدأ بعد بشكلها الناضج على الأقل، فالمسرح
وبوصفه حالة وعي يحتاج الى مسافة زمكانية؛ حتى يقدم رؤيته حول هذه الفترة
التاريخية الهامة بصورة دقيقة وناضجة فالنظرة من هذه الزاوية القريبة والملتصقة أو
(بعين الدودة) كما يسميه كولن ولسون لا يمّكن من التقاط كامل الصورة أو أجزاء
واسعة منها على الأقل ولازالت شعارات الثورة تتخلق، ويتم اختبارها وتطويرها في محك
الممارسة والواقع.
وأنا على ثقة أن
مسرحنا السوداني سيضعها على منضدة التشريح بعد اكتمال معطيات وأدوات ذلك؛ ولهذا
لست قلقاً، ولا أسمي ذلك غياباً له بقدر ما هي مرحلة اختزان وتأمل وإنضاج للرؤى،
وذلك في تقديري سينعكس إيجاباً في تناول هذه المرحلة وتخليدها، والتبشير بقيمها وإدخالها
حيز الادراك الفاعل في وعينا الجمعي وخبرتنا التاريخية.
الناقد محمود فكاك : كل ما عرض لا يتعدى أن يكون حالة توثيقية أو تعبيرية
المسرح والثورة
سؤال يحتوي علي مصطلحين معقدين، ويحتاجان الي تفكيك، ويكفيك اثباتاَ ما تشهده
الساحة السياسية بسبب الاختلاف وتفاوت الفهم لمصطلح الثورة .
بالنسبة لي ظل
المسرح السوداني لصيقاً بقضية الثورة، ومتحركاَ في وعيها مذ بواكير نشأته إبان
الحركة الوطنية، وما بعدها، وأعني هنا المسرح الجاد الملتزم بقضايا وطنه ومجتمعه .
فعلي سبيل
المثال لم تكن مسرحية (صلاح الدين الأيوبي) التي قدمت آنذاك هي دعوة مبكرة لعروبية،
بقدر ما هي استنهاض لوعي ثوري خدم القضية الوطنية، وليس ببعيد عن هذا ما كتبه هاشم
صديق في (نبته حبيبتي) و(أحلام الزمان)، وحتي ما قدم علي المستوي الاجتماعي هو مسرح
ثوري بإتقان؛ لأنه يعمل علي التغلغل في عمق النسيج الاجتماعي وخلخلته، وإعادة بنائه،
و(خطوبة سهير) ليست بعيدة عن هذه النقطة، والأمثلة كثيرة .
أخلص إلي أن
الثورة متحركة في أتون المسرح السوداني، والسؤال يتحرك إلى غياب المسرح السوداني (
خلال الثورة وما بعدها) فبالضرورة كل ما عرض
من مسرح تحت هذه المظلة لا يتعدى ان يكون حالة توثيقية أو تعبيرية تحاول مجاراة
الثورة، لكن بالنسبة لي يظل ارتباط المسرح
بتحقيق أهداف الثورة وليس تقديم مسرح ثوري، والذي لا ينفك ان يكون تياراً ضمن
تيارات عديدة للمسرح، وكذلك، فإن عودة المسرح إلى دوره الطليعي كفيل بتحقيق كثير من
أهداف الثورة أقلها التعبير عن التنوع والتعدد الثقافي، ولا يخفي كذلك الأدوار
التي يمكن أن يؤديها المسرح عبر تحقيق أولويات
الفترة الانتقالية، والانتقال الي الدولة المدنية، التي يعدّ المسرح والفنون أهم
علاماتها وسماتها، وكذلك عودة الجمهور للمسرح.
المخرج ماهر حسن سيد : ليكون المسرح موجوداً في الثورة علیه أن يكون طلیعیاً
ما زال المسرح یتجدد
ویواكب روح الإنسانیة، ویلھث من أجل تقدیم كل ما ھو مدھش، فنیاً
ومعرفی حاملا أدواته
وتقالیده التى عرف بھا منذ القدم .
فن المسرح ھو فن
التواصل المباشر بین المؤدي والجمھور، فكان لھذا التمیز فعل السحر عند الممثل والمتفرج على السواء، فكیمیاء
ھذا التفاعل المباشر تظل راسخة في الممثل المؤدي ،وھو
یبدع الشخصیة الفنیة، والجمھور الذى یحب ھذه الشخصیة ینفعل معھا..
من ھذا السرد
المختصر عن مسیرة فن المسرح، نجد أن الفن الدرامي ھو في الأصل ثورة فنیة تطورت مع مرور الزمن من شكل بسیط یؤدى
بواسطة ممثل واحد( منولوج) إلى ( الدایلوج) وھو فن الحوار القابل للأخذ والعطاء،
وتعددت بعد ذلك أشكال الحوارات ودخلت الموسیقى والمؤثرات ولغة الجسد والرقص التعبیرى،
وكل اشكال السونغرافیا من ضوء ، ودیكور، ولون لیضفى على الأداء الواقعیة الخلاقة
المطلوبة، وتقریب صورة الأحداث وحبكتھا فى قوالب خلاقة لإضفاء الدھشة والتشویق .
ولكي یكون المسرح موجوداً في الثورة علیه أن یصبح مسرحاً طلیعیاً. ما معنى الطلیعیة في المسرح؟ وكیف تكون؟ علینا من حیث المبدأ أن نتعمق فى واقعنا وذواتنا، ونتبیّن مأساتنا وجرحنا، وأن نحسن التعبیر عنھا من أجل التاثیر والقدرة على تجدید الإنسان لمواجھة أعبائه ومسؤولیاته. فالمسرح أداة ثوریة بالغة الأھمیة في تجاوز التمزق والتخلف. فالطلیعیة فى المسرح تكون بمدى ارتباطه بقضایا الجماھیر والاستمراریة فى ذلك لخلق خبرة تراكمیة .
إن عدم وجود استمراریة في المسرح السوداني نابع من أن مسرحنا محاولات فردیة یقوم بھا كتاب فردیون یعبرون عن ثقافتھم الخاصة، ومزاجھم الفردي دون یشكلوا تیاراً عاماً جدیداً یمكن وصفه بانه مسرح سوداني؛ لذلك كان الشوق دوماً لمسرح عموم أھل السودان. ولیتم ذلك لابد من منھج للفن المسرحي كالعلم تماماً، وھذا المنھج یحتاج إلى أن یوطد؛ لیتشكّل منھا لبنة أساسیة لإقامة ذلك الصرح المسرحي الكبیر. المنھج العلمي یعرف من أین یبدأ، وإلى أین ینتھي من دون أي احتمال للخطأ. ھذا لا ینفي وجود الخبرة والتجربة، ولكنھا تظل محدودة الأثر؛ لھذا اھتمت الدول بمعاھد الفنون ،وسخرت لھا الإمكانیات ..
المسرح في زمن
الثورة ثورة أخرى على كثير من الرؤى السابقة لفن المسرح وقدرته غیر
المحدودة في التغيیر الاجتماعي تبدأ ھذه الثورة من المؤلف الذي یكتب الأحداث
والممثل یضفي الحیاة على تلك الأوراق المكتوبة بعنایة، ثم
یأتي دور المخرج الذي یقود فریقاً من الفنیین إلى كتابة لوحة متكاملة من الأحداث
المتحركة بكل بھائھا الفني الخلاق إلى جمھور متعطش إلى التفاعل والانصھار مع الاحداث بكل
حواسه وفكره وتجربته.