بداية نترحم على الأخ والصديق الفنان المبدع عمر الحلاق صاحب الفلم التوثيقي (حريق النخيل حريق الروح)، الذي سكب فيه عصاره فنه. ونحن اذ نستعير منه العنوان نقول له: يا عمر مازال الحريق مستمراً في النخيل والروح.
فجعت قرية عدو بجزيرة صاي العريقة أمس الأول بآخر أحداث مسلسل الحريق، الذي التهم آلاف من النخيل، في سويعات قليلة، إذ تحولت أشجار النخيل الباسقة إلى كوم من الرماد.
ربما الحكومة وبقية شعب السودان لا يعلمون قيمة النخلة لابن الشمال؛ لذلك لا ينفعلون، ولا يتأثرون بما يحدث من حرائق في نخيل الشمالية.
شجرة النخلة تمثل لابن الشمال حياته الاقتصادية الكاملة في مأكله ومشربه وملبسه، في فرحه وترحه، في مرضه وشفائه . وباختصار شديد هي حياته بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ.
منذ ما يقارب العشر سنوات وابن الشمال يعاني ويعاني من هذه الحرائق، على امتداد المنطقة النوبية من أقصاها الى اقصاها، لم تنجُ قرية او مدينة او منطقة من هذه الحرائق.
حتى احترقت أكثر من نصف أشجار النخيل، وازداد ابن الشمال فقراً على فقره، وأصبح يشكو لطوب الأرض من جور الحكومة . ديكتاتورياتها وديمقراطياتها، وانتقاليتها، لم يلتفت اي منهم على الاقل ليكفكف دمعة ابن الشمال حزناً على نخيله.
هذه الحكومة التي ترسل الوفود من مجليسيها العسكري والوزاري الى الشرق أو الغرب عندما تندلع عندهم النيران في حي أو في قطيع من الأبقار او الإبل ( وهذا حقهم حتى لا نوصف بالعنصرية) فما بالنا نحن ونخيلنا واقتصادنا وكل ما نملك يحترق، ويتحول الى رماد، ولا تعيروننا مجرد التفاتة. حتى حكومة الولاية البائسة لا تدري ما يجري في أرضنا النوبية.
ما هو الذنب الذي جناه ابن الشمال ليجد كل هذا الإهمال من الحكومات المتعاقبة، تبخلون علينا حتى بعربات مطافيء لنطفيء به نيران نخيلنا وقلوبنا .. ذنبنا الوحيد الذي ارتكبناه في حق هذا الوطن أننا لم نحمل السلاح، كما فعل غيرنا، ولم نطلب الانفصال، كما فعل غيرنا، لو كنا فعلنا ذلك لكان صوتنا مسموعاً لدى أهل الحكم. ولكننا لم نفعل ولن نفعل ذلك يوماً؛ لأننا ابناء ملوك النوبة بعانخي وترهاقا، وحضارتنا الممتدة أكثر من سبعة آلاف سنة علمتنا أن الحق يأتي بالسلمية، وليس بالسلاح، وسنتمسك بسلميتنا حتى لو احترقت آخر نخلة نمتلكها في أرض الجدود.
نعم أبناء المنطقة اهملوا كثيراً في عمليات نظافة أشجار النخيل، وهذا يؤدي الى سرعة انتشار النيران، ويساعد كل من في قلبه مرض ان يشعل ثقاب كبريت ليحرق به آلاف النخيل في لحظة واحدة .
ابناء المنطقة كغيرهم من ابناء السودان هجروا النخيل والزراعة، واتجهوا للتنقيب والبحث عن الذهب، فلم يجدوا ذهباً، ولم يحافظوا على نخيل آبائهم وأجدادهم.
دعوتي الصادقة جداً لأبناء جلدتي .. إهمالكم في نظافة اشجار النخيل عامل أساسي في هذه الحرائق .. وبدل البحث عن الذهب تحت الأرض، ابحثوا عن طريقة للاستفادة من الجريد اليابس في أشجار النخيل .. ابحثوا عن الصناعات التحويلية البسيطة للاستفادة من هذا الكم الهائل من الجريد اليابس . الذي أعرفه ان هذا الجريد يمكن تحويله الى علف حيواني ممتاز بعد طحنه، ويمكن تحويله الى الصناعات الورقية والكرتون .. صدقوني يا أبناء المنطقة .. الذهب بين أيديكم، وليس في الآبار العميقة وسط الجبال . قليل من البحث العلمي وإمكانيات مادية متواضعه يمكن أن تخلق لكم واقعاً جديداً.
ونداء للحكومة الانتقالية وحكومة الولاية: أقل ما يمكن ان تقدموه لهذه المنطقة عربات مطافيء .. هل ترونها كثيراً على أبناء هذه المنطقة المنكوبة؟ اقل تقدير من شركات الذهب او شركات الموت المنتشرة بطول وعرض المنطقة، حولوا نصيب الحكومة من الذهب إلى عربات مطافيء .. لا أعتقد اننا طلبنا المستحيل يا مبارك أردول.