ذات نهارصيفي في واشنطن دي سي، كنا في مهمة عمل، شخصي وزميلتي الأفروميريكية السيدة (ساندرا)، ساندرا إمرأة ساخرة حد المرارة، لا يعجبها العجب، ولا الصيام من اصله، في رجب أو في غير رجب، الشمس مشرقة، والسماء زرقاء كما تبدو في بطاقات البريد تماماً، والسحب منتقاة من مسلسل (السمسوناب)، بيضاء تبدو كالعهن المنفوش، والسواح من كل حدب وصوب أتوا، ومن كل بلاد الدنيا، وكل الولايات، يذرعون ساحات (المول) طولاً وعرضاً، يتفحصون أحجار الطريق فكأنما يبحثون عن خاتم سليمان، يتجولون بين المتاحف، راجلين ومن على سطوح البصات ذوات الطابقين ناظرين، وفي داخل المتروباص المعدل الذي يمشي على إطارات مطاطية، مستسلمين إلى دراية السائق والدليل السياحي، وبين كل ذلك، الباعة الصامتون الجالسون داخل مقطورات بيضاء، تتفتح منها ابواب في كل جوانبها ترتفع إلى السماء، والمتشردون يسألونك في أدب، عن (الفكة) التي تقعد في قعرجيبك، فكأنهم يعرفونها وتعرفهم، وكأنك لن تحتاجها، آلات التصوير معلقة على رقاب تسعين بالمائة من القوم، عدا التلفونات وادوات تصوير اخري مما (يقول الشعراء)، وبين القوم نسبة عالية من المتقاعدين، أو ممن يطلق عليهم تأدباً اسم المواطن الكبير (ترجمة قوقل: سينيور سيتيزين)، رتبة تلحق على من تجاوز الستين، وهي رتبة طيبة، تعينك على شراء كثير من الأشياء باسعار مخفضة، أو أن تكون عسكرياً، فتصيب الفائدة ذاتها، إضافة إلى الإلكترونيات.
ظلت السيدة ساندراترقب في اهتمام شديد وعجيب في الوقت ذاته، الرجال والنساء المتقدمين في العمر، وهم منشغلون بتصوير النصب، والآثار الأرضية التاريخية، والرموز الوطنية، ارصفة الآجر، وكلما يقع تحت
طائلة أنظارهم، وحينما تملكني الفضول واستبد وطغي وتمادى على قدرة الصبر عندي، كان طبيعياً أن أسألها، الحكاية شنو؟ لعل شيئاً في الأمر يبدو ولا يكون، أجابتني وهي تجذب نفساً عميقاً، ينفث سخطاً وتبرماً، وتبدت نظرتها الساخر وهي تمط شفتيها وتدور فمها، وصحبت كل تلك المظاهر (غزة الكيعان)، رمقتني في تحد وأجابت
(الناس ديل بصورو في شنو، كلها سنة ولا سنتين ويموتو)!
فلم أحر إجابة، فانتصرت، وبدا ذلك جلياً في بريق عينيها وابتدارها للسير بساقين معتدلين، على طريقة (مارش).
فجر سؤال السيدة ساندرا في نفسي، احاجِ وأسئلة، قد تراود أي برهمي عتيق، انصب جلها حول كنه الحياة، وتقلصت كل تلك التساؤلات في نهاية اليوم، فتلخصت في سؤال وحيد، لماذا نصور؟
وازداد عبء ضغط السؤال، خاصة وأن رياضة التصوير في السودان، فاقت كل رياضة شعبية عرفها شعبنا منذ اكتشاف لعبة (سكج بكج)، مروراً بغنيمة كرة القدم الاوربية، يهتم بممارستها كل من يحمل موبايلاً، وكل إنسان وله (حديدة)، وأحتفل الناس بهذه النزعة التصويرية، بجملة من تراث الحكومات البالي يقول منطوقها (تعالو نوثق)، ومن أجمل ما رأيت في شأن التوثيق، رسماً كاريكاتورياً لرجل يغرق ويموت، والناس منشغلين بتصوير الحدث، دون أن تمتد يد أحد منهم لإنقاذه، وفيديو لامرأة سودانية تم جلدها على مرأى من الطائفة، فلم تفت شعوب العالم فرصة التلذذ بصراخها الذي شق عنان السماء.
وقبل أن نلج وغي الإجابة عن سؤالنا الرئيس، أو حتى محاولة التحايل على مدواورته، فقد وجدت نفسي معتقلاً سياسياُ في ساحة التوثيق، وعزّ على أن افارقها، دون أن أعرج على قصة صديقي المفلس، الذي كان كلما ضاق به الحال، حكى قصة جده، بعد أن يسب سنسفيله، وكيف أنه كان يمتلك كل قطع الأراضي السودانية النادرة … يقول (ياخي من سجن كوبر ده لغاية الباقير، كان حق جدي)، ثم يضيف (لكن للاسف قضاها شراب مريسة، ما وثق ليها)، وجاءت الحكومات المتعاقبة، فقالت (ورق توثيق مافي، أراضي مافي)، ومؤخراً وبعد ان تضاعف عدد المفلسين في الجمهورية التي لاتغرب عنها الشمس، حتى ينضج الخلق، تم تداول (الوهمة) بين الوف من الناس، فحازوا من الاراضي ما بدا لهم، ونامو في غرف ضيقة، أو تحت رحمة البعوض، والسيول، وهم يسبون الجدود ووطن الجدود، دون ادنى شعور بالذنب. وقد تعجبت في السابق كثيرا من عدم اهتمام عرسان دول العالم المتحضر، بتوثيق مناسبات الزواج عن طريق الفيديو، والاكتفاء عوضاً عن ذلك، بالصور الثابتة، حتى تزوجت وانقضت من عمرزواجي خمس سنين، فكان آخر ما أوده، مشاهدة تلك الحادثة موثقة على الفلم.
أما نوع التوثيق الذي ظل يدهشني و يمتعني على مدى السنين، وبما أنني أعني كثيراً بالفن والفنانين، فقد كان طبيعياً أن يكون التوثيق لبعض عظماء قبيلة الغناء والموسيقي من المفضلين لدي، ولأن مثل هذا التوثيق غير متعارف في تلفزيوناتنا بسبب من احتلال رؤساءنا لكل المساحات، ومن بينها محاولاتهم الجمع بين العرضة والجبجبة والمون ووك، فقد اكتفيت بالغناء الغربي، فوجدت ارتالا من الوثائقيات المنفذة بعناية واحترافية، تتمحور كلها في تتبع بدايات الفنان، ونشأته، والظروف التي شكلت وصقلت موهبته، وقد يشترك الكثيرون، وخاصة السود، في المعاناة العنصرية والفقر المدقع، وقد تختلف الطرق والوسائل التي اتخذها اي منهم لاكتساب الشهرة، ويتم التوثيق عادة، بالاستعانة بأصدقاء ومعاصري وأفراد اسرة الفنان، وقدامى عازفين ومديري أعمال ومتنفذين في شركات التسجيلات، يدلون بشهاداتهم وذكرياتهم مع الفنان، إلا أن كل حلقات التوثيق، لم تغفل أن تتناول شيئاً مشتركاً واحداً، يجمع كل هؤلاء الفنانين، وهو جاذبيتهم الجنسية، يدلي بالشهادة دائماً وفي منتصف الحلقة تماماً، رجل مهردم الأسنان، مغبر فكأنما بعث لتوه من مقبرة، ودائماً ما تكون شهادته على هذا النحو: والله المرحوم النسوان كانو بجدعو لباساتن في المسرح لمن يظهر!
تصورت في خاطري لو أن شيئاً من هذا يحدث عند توثيق سير فنانينا، خلف الله حمد وبقية العظماء الراحلين، فهززت رأسي عجباً، فمحاسن الموتى تختلف من بلد لآخر، وتصورت حبوباتنا وهن يجدعن السراويل إعجابا بالفنان ود السافل!، سراويل من عينة المكندش المكندش!.
عقد من الزمان مضي قبل أن اقترب من الإجابة عن سؤال السيدة ساندران والذي بدا في لحظته مجيباً عن نفسه من داخله، فهو افتراض بعدم جدوى ممارسة التصوير، لقوم يعيشون آخر لحظات حياتهم، فكأنما الاستمتاع بمرأى تحولات الضوء، قصر على الذين يعيشون طويلاً، ولكن ما يدريك أن صبيا قد يموت قبل معمر بلغ الثمانين وما ابالك يسأم، عقد من الزمن مثل أطول فترة قضيتها في البحث عن إجابة لسؤال،
ليس لصعوبة في السؤال، أو لكسل عقلي يعتورتفكيري، ولا لأي ذريعة من ذرائع الشعور بعد أهميته، ولكن بسبب من أن حلول بعض المعضلات والقضايا، تحتاج إلى زمن طويل من الاختبار الحياتي (ودوننا تاريخ التطور البشري شاهداً على ذلك)، حتى الوصول إلى نتائج مقنعة بشأنها، ولأن بعض الاسئلة تأتي مشفرة بإجابات لا تكون حاسمة إن لم نقل مضللة.
في العشر سنين التي مرت منذ أن القت السيدة ساندرا بسؤالها، تبين لي، أن للفن قدر تأهيلية، تتوفر لممارسه أولمتلقيه، بمتلازمة الشغف و الحضور، سواءً كان ذلك الفن سمعياً أم بصرياً، وأن ارتباط الإنسان بالحياة عبر آليات الفن المتعددة، يضيف بعداً مهماً إلى علاقته بالكون والكائنات، وقد يفسر جزءاً من كنه الوجود لا يتأتي لمن لم يخبر التجربة، ولمن لم يتوقف خلال مسيره في دروب الحياة، متأملاً الحركة المتجددة للكون من حوله، الشروق، الغروب، حركة السحب و تعدد تشكيلاتها، السحنات وتعابير الوجوه، المباني والشجر، وقد يسال متسائل: ما الذي يعني الإنسان من كل ذلك؟ أقول يعنيه وجوده المباشر وإحساسه بالاستمرارية، وإلهامه الإندغام في هذا الهيولي الذي هو الأبد والسرمد، وهذه منطقة تنتفي فيها فكرة العمر تماما، وتصبح عملية ممارسة الفن، أقرب إلى العبادة منها إلى ممارسة العلوم التطبيقية، أو (الكرافت)، ويصبح جلياً أن علاقة الإنسان بالأشياء من حوله، والتي قد تتغطى طبيعياً بغبار الرتابة، لا يجد معها الإنسان مناصاً، غيرالإقلاع عن الرؤية التي يمارسها من موقعه القديم، ومشاهدتها والتدقيق في تفاصيلها، بروح وموقف معاصر، فالحياة تتغير و تجدد من حولنا بشكل يدعو إلى الإعجاب، وقد لايكون أي زمن مناسب، مثل الذي يتاح لمعظم هولاء المتقاعدين، الذين استهلكتهم وظائفهم في الماضي، فلم تتوفر لهم ثانية يتيمة، لرؤية وردة واحدة تتفتح.