كان وحيد أمه. وكان يكتب اسمه هكذا: كامل صالح وليس كامل أبوصلاح. سألته: لماذا لا يكتب أبوصلاح؟ فأجابني: التواضع يا ابني مهم ووالدي اسمه صالح وأبوصلاح اسم شهرة.
رجل أبيض، طويل القامة، سمح الخصال، يلقاك هاشاً باشاً،
ومتفائلاً، ومحباً للحياة. رافقته في الأفراح
والأتراح، ولعب الكونكان مع الأهل والأصحاب، والتقيت أغلب من كانوا يسمون بنجوم
المجتمع من الفنانين والشعراء الذين كانوا ينادونه بود أبوصلاح، ويزورنا منهم من
يزور، ويقضي الأماسي الملاح.
عتيق ومن شدة
محبته لأستاذه صالح عبد السيد سمى ولده كذلك “كامل”. وكان يأتيه افتقاداً
لمعلمه. حكى لي كثيراً عن طفولته بحي العرب مع التيجاني الطيب، وعبد الخالق محجوب
الذي كان يزور جدته، وهناك ونوادر جمعتهم معاً واخوتهم، حتى جاءت الانتفاضة،
وقابلته بالتيجاني بمباني صحيفة الميدان بالخرطوم اتنين وقتها، بعد أن كانت قد مضت
خمسة عقود دون أن يلتقيا تقريباً.
فيما بعد، وفي عام ٢٠١٠م، كنت أساعد العم التيجاني
للوصول للعمل من منزله بالثورة الحارة العاشرة، وعرجنا بطلب منه ذات مرة إلى حى
العرب.
أوقفت السيارة بالشارع الذي يفصل بين الحي والسوق، وأشّر
التيجاني من مقعده للبيت الذي كان يسكنه أبوصلاح وزينب وكامل، وكان في جهة السوق
أكثر منه إلى الحي.
حكى لي كامل عن مواقف وذكريات كثيرة، منها عن اشتراكه
في مظاهرات الاستقلال، واعتقاله مرات، ودعمت ذلك زينب طه والدته، وامي التي أشرفت
منذ سن باكرة على شؤون تربيتي، وأجزلت في سرد الحكاوي ذات الصلة بأيام الاعتقالات
لوحيدها، وإضرابها عن الطعام والشراب، والبقاء طويلاً عند سور السجن مع إخوانها
عبد الرحمن، ومحمد طه.
عن نادي الأمير البحراوي، ورئاسته له فترة مهمة من
تاريخ هذا النادي العريق، حكى لي. وكنت أتذكر كثيراً من المباريات التي شاهدتها
معه للفريق، والتمارين التي ذهبنا لمتابعتها برفقة المدرب الالماني مستر بيتر،
الذي كان يسكن في مواجهة شارع الكوبري (الأزهري) غير بعيد من منزلنا، وكيف أني كنت
اتشوق لتلك اللحظة التي أمسك فيها بالكرات الملونة وقتها، وأدفع بها عندما نصل إلى
الميدان.
وسرد لي عن تجاربه في السفر والترحال ضمن عمله في
حسابات وزارة المالية، ولا أنسى آخر مأمورية له لبورتسودان. تعلقت به، وبكيت عندما
جاءت لحظة خروجه من المنزل، وأصبح يخفف من آلامي وبكائي، وأنا أساله عما أشغل به
نفسي في أيام سفره.
كنت وقتها دون سن الحلم بكثير بعد. لا أزال أتذكر
وصفته الماكرة لي والتي تخلص بها مني بأن أسال (القمرة) كلما اشتقت إليه، وستجيب
عن أحواله وصحته، وهي (وحسب ما خدعني به) لا تكذب أبداً.
حكى عن الحياة
الجديرة بالصبر وبالاجتهاد، ودائماً ما أسر لي بقصص شخصيات اجتماعية ناجحة عاشت أحوالا
فقيرة وصعبة في نشأتها، ثم عانقت النجاح. فاجأني ذات ليلة ببعض معرفة له بعزف
العود والكمان، فسألته عن علاقته بالكمان، ولماذا لم يطورها؟ فقال إنه ترك ذلك
عندما نسى الكمان بالحوش ذات سهرة، فنزل المطر قاسياً، فابتل الكمان، وخرب تجويفه،
وانكمش هيكله الخشبي، وارتخت أوتاره فأحس بابتعاد بعدها عن العزف.
عمل في تربيته لي بأن أكون أخاه وصديقه. لاحظ، منذ
تعلمي القراءة، حبي للاطلاع، فأصبح يغذي نهمي للقراءة بالصحف، ثم المجلات، وكتب
القصص والسير، فكنت أنتظر عودته من العمل على أحر من الجمر؛ كي أشتم رائحة ورق
جديد ومغامرة تجمح بالخيال وتطير به عالياً.
حين شببت، أصبحنا كذلك، والتقينا في الأفكار
الديمقراطية، والعمل على نشرها، فلفت أنظار أصدقائي الكثر (المجانيين والفوضويين)
من شعراء ورسامين، سرعان ما صاروا أصدقاءه.
كان يعجب بأفكارهم ونقاشاتهم، ولكن حين ننتقل إلى الحوش
الداخلي يعلق بأن فلاناً ولد موهوب العقل، وسليم المنطق، ولكن ليته يهتم قليلاً
بتنظيم ملابسه، وتنسيق شعره. ومنهم ويا للغرابة من كانوا أساتذتي بالمدرسة، ممن
تقود الحوارات الثقافية بيننا إلى دخول بيوت بعضنا بعضاً، وخلق تعارف مباشر مع أفراد
الأسر، ونظل نحتفظ بتلك العلاقات حتى اليوم رغم رحيل الأساتذة. لاحظت فيما بعد أن
تلك الصداقة قد تكررت مع من هم أصغر سناً مني من أبنائه: وصفي وهيثم وأيمن وحازم
وأصدقائهم.
عندما سافرت
للدراسة بموسكو، لم يمنع ذلك الأصدقاء من أن يأتوا ويزورونه ويجلسون إليه دون
انقطاع.
في الانتخابات التي تلت انتفاضة أبريل 1985م جعل من
البيت تجمعاً للتحالف الديمقراطي الذي كان يعمل في حملة ترشيح سعودي دراج، وحضرت
ذات إجازة لأتعرف على والدي من جديد ناشطاً سياسياً ديمقراطياً، وأباً روحياً.