اتَّهمنا زواحف الكيزان بالإتجار بالبشر حين كسروا الحظر، وأخرجوا بعض المساكين إلى الشارع، وهم يهتفون: “ما تغشونا.. ما في كورونا”، تارةً بحجة الدفاع عن الدِّين، وتارةً أخرى من أجل “معاش الناس”، كما طالبنا الدولة بفرض هيبتها، وقد نقلت قناة الجزيرة صلاة التراويح من بيت أحد الأثرياء.
لم يكن هذا الاعتراض على الخروج إلى الشارع؛ لأنهم
كيزان، فحقُّ التظاهر مكفولٌ بالقانون، وليس لأنها قناة الجزيرة، فالإعلام حرّ،
وكان أحد نضالات شعبنا الأبي من أجل حرية التعبير، ولكن كان الاعتراض لأنَّ ذلك
مثّل تحديّاً لأنظمة الدولة التي قررت إجراءات احترازيّة، لمواجهة جائحة حيّرت
الدول العظمى.
فما بال اليوم مَنْ لا نشكك في ثوريتهم يريدون الخروج
في مليونية؛ لمطالبة حكومة يفترض أنها تمثلهم لتصحيح المسار، في وقتٍ اتفق فيه
مجلس الوزراء مع قوى الحرية والتغيير على الشروع الفوري في تشكيل المجلس التشريعي،
وتعيين الولاة المدنيين في البلاد، مع حديث عن تغيير وزاري يفعّل أداء الحكومة،
الذي لا يختلف اثنان على ضعفه، وعدم تلبيته طموحات الثوار!
وأستغرب أن يطالب رئيس الوزراء باتباع الإجراءات الاحترازية
خلال المليونية، في توافق مع دعوة تجمُّع المهنيين السودانيين المُنظِّم
للمليونية، الذي ظلَّ يكرر مطالبته المشاركين في المليونية باتباع تلك الإجراءات.
لا أدري هل فقدنا عقلنا، وضللنا الطريق، ونسينا أنَّ
هناك متربصين بالثورة، وبأجسامها التي تمثلها، حتى نتصارع فيما بيننا سواء في تجمع
المهنيين أم قوى الحرية والتغيير؟ ثم ها نحن نختلف حول جدوى الخروج في مواكب في ظلِّ
وضع كارثي، على المستوى الاقتصادي والصحي، إلى جانب وجود من هم على رصيف الانتظار
للانقضاض على الثورة.
وما موقف الذين رفضوا زحف الكيزان، وطالبوا بفرض هيبة
الدولة، وأنا منهم، ثم نرى حماة الثورة يخرجون، في ظل وجود مهددات أمنية، وصحية،
إلى جانب المشاركة في كسر الأنظمة والقوانين، أي تناقض نحن فيه الآن؟
لا اختلاف على سلحفائية أداء الحكومة الانتقالية في
الاقتصاص للشهداء، وملف السلام العادل المستدام، ومحاكمة رموز النظام البائد،
ومرتكبي كلّ الجرائم منذ 30 يونيو 1989م وحتى اليوم، واستكمال هياكل السلطة
الانتقالية المدنية، وهيكلة الأجهزة الأمنية.
ولكن هل عجزنا عن تفعيل وسائل للضغط، ومراقبة الأداء
غير المليونية في هذا الظرف الاستثنائي، مع تسليط سيف المروق على كل من يعارضها، ونزع
أصالة الانتماء للثورة منهم؟
في ظني أنَّ الأَوْلَى كان أن نساعد على فرض هيبة الدولة، باحترام قانون الطوارئ الصحية، والإسهام في دعم الحكومة على الخروج من مأزق “كورونا”، والعمل على توحيد صف الثوار برأب الصدع في تجمع المهنيين، وقوى الحرية والتغيير، لمواجهة التحديّات الماثلة متراصين، وتقويّة الحكومة التي أسهم ممثلو الثورة في توهينها بسوء الاختيار والمحاصصة، وممارسة الإقصاء فيما بينهم.
إننا إذا أمِنّا مكر الزواحف، فهل نأمن مكر العسكر،
ولم تتحقق هيكلة الأجهزة الأمنية بعد؟ وهل يكفي أن نكتب “اتباع الإجراءات
الاحترازية” لنخرج في مليونية، يختلط فيها الحابل بالنابل، كما لو أننا نحاكي
ذلك التحذير القبيح على علب التبغ “التدخين ضار بالصحة”.