سئلت قبل أيام عن رأيي، بشأن الدعوة الى تسيير (مواكب) حاشدة يوم الثلاثاء المقبل، في ذكرى ٣٠ يونيو ٢٠١٩، وهي ذكرى (مليونيات) باهرة في عدد من مناطق السودان، ردت على مرتكبي المجزرة البشعة التي جرى ارتكابها في موقع الاعتصام السلمي، أمام مقر قيادة الجيش السوداني، في الثالث من يونيو من العام نفسه، فسقط شهداء وجرحى ، وهم يرفعون رايات الحرية ، وهناك مفقودون !
أعدت الى الذاكرة موقفي حينما كان هناك جدل وتباين في الرؤى عن جدوى تنظيم (مليونية) قبل عام .
قلت إنني دعمت الدعوة الى (مليونيات) ٣٠ يونيو ٢٠١٩ بالصوت والكلمة ، لكنني الآن لا أدعم الدعوة الى تحشيد مواكب في ٣٠ يونيو ٢٠٢٠ رغم معرفتي بأن التظاهر حق مكفول لكل الناس في زمن التحول الديمقراطي.
السبب الأهم الذي يقف وراء تحفظي بشأن تسيير مواكب هذه الأيام، يكمن في أنني لا أوافق على الزج بشبابنا من الجنسين -وهم صناع فجر الثورة السودانية السلمية- وبناة المستقبل في تظاهرات في (زمن كورونا) القاتل.
ثانيا فانني منسجم مع قناعاتي ومواقف أعلنتها بعدما انتشر وباء (كورونا) في السودان.
أعلم أن هناك أكثر من مبرر لتسير مواكب مليونية في ٣٠ يونيو المقبل اذا لم يكن هناك وجود لفايروس (كورونا) .
على سبيل المثال فان من مبررات التظاهر أن يسعى شباب الثورة الى تأكيد الدعم للحكومة ورئيسها دكتور حمدوك خصوصا بعد النجاح الباهر لمؤتمر الشركاء الدوليين غير المسبوق في برلين .
من المبررات أهمية اعلان الغضب (المليوني ) واطلاق رسائل ساخنة، كي تصوب (حكومة الثورة) مسارها، وتقترب أكثر من نبض الشعب، وتوفر سبل العيش الكريم، وتعالج سلبيات محسوسة وملموسة في عدد من وزاراتها واداراتها ، وليتم استكمال السلطات الانتقالية، ويشمل ذلك تشكيل المجلس التشريعي وتعيين ولاة مدنيين.
أي أن تسارع السلطات الانتقالية الى تحقيق الأهداف التي ضحى في سبيلها الشهداء والجرحى والمفقودون واللاجئون والنازحون والمغتربون والمهاجرون منذ الثلاثين من يونيو ١٩٨٩(تاريخ انقلاب الجبهة القومية الاسلامية المشؤوم) حتى اليوم.
في صدارة الأهداف الكبرى لأية تظاهرة تأتي ضرورة احلال (السلام) الشامل بالاتفاق مع (حركات الكفاح المسلح).
هناك أسباب ومبررات عدة لتسيير مواكب في ذكرى ٣٠ يونيو،وبينها رفع أصوات مليونية لاصلاح المنظومة العدلية والأمنية والعسكرية ومحاكمة متهمين بعمليات قتل جماعية وفردية و أيضا متهمين بسرقة المال العام .
من مبررات الحشد رفع الصوت عاليا ، وارسال رسائل ساخنة الى قوى الحرية والتغيير وتجمع المهنيين لاصلاح حالهم ،ورص صفوفهم وتوحيد خطاهم باعاده بناء الهياكل واشاعة روح التغيير في أوصالها، ووضع برامج محددة تلتزم بها الحكومة،مع ايجاد آليات للمحاسبة والمساءلة ، بدلا من ترك الحبل على الغارب .
لو استمر حال الشتات فهذا يعني أنهم حتى الآن لم يتعلموا من دروس الماضي ،وفي هذه الحالة باتوا عناصر اضعاف للحكومة الانتقالية التي تحتاج الى مراجعات لسياسات وممارسات، في سبيل المواكبة لنبض الشعب وتطلعاته المشروعة.
في حديث الى (بي بي سي) بعد سقوط نظام الرئيس المخلوع عمر البشير قلت إنني أرى أن (يستمر دور الشارع خلال الفترة الانتقالية للتعبير عن نبض الثورة).
هذا معناه أنني كنت وسأبقى بعون الله من أنصار لغة الشارع السلمية ،ومن أبرز داعمي حق الشعب في التعبير السلمي عن رؤاه.
رغم كل هذا وذاك لم أجد ما يقنعني بدعم تسيير مواكب حاشدة في زمن الوباء العابر للقارات (كورونا).
لم أجد أيضا بعد الاعلان عن تظاهرات كبرى في ٣٠ يونيو ٢٠٢٠ ما يفسر صمت اللجنة العليا للطواريء الصحية ووزير الصحة دكتور أكرم التوم ، الذي كان صاحب صوت مسموع وواضح وهو يحذر من مخاطر (كورونا).
بحثت ولم أجد ما يبرر نهج الحكومة والسلطات بغض الطرف تجاه انتهاكات صارخة لأمر الطواريء الصحية، منذ أيامها الأولى ، سوى غياب (الهيبة) وضعف الارادة وربما (تآمر) بعض الجهات،اضافة الى الفشل في تأمين الخبز والاحتياجات اليومية للمواطنين في مواقع السكن بيسر،ومن دون صفوف .
في ٢٨ يونيو ٢٠١٩ كتبت مقالا داعما للدعوة الى مليونية، وفي ١٩ أبريل ٢٠٢٠ أي قبل نحو شهرين كتبت سطورا تحت عنوان (أوقفوا دعاة الانتحار الجماعي ..ووفروا الخبز) .
تحدثت في تلك الحروف عن أهمية الالتزام بالضوابط الصحية،وانتقدت عدم احترام بعض الأئمة والمصلين لقرار تعليق الصلاة في المساجد.
أرى أن الدعوة الى الاحتشاد
في زمن (كورونا) هي ( دعوة الى عملية انتحارية) .
الى جانب السبب الصحي ، هناك الآن تحديات متجددة تكمن في أن رموز النظام الانقلابي المباد يواصلون مخططاتهم للانقضاض على الثورة ،وباتوا يجاهرون بالعداء،ويسيرون المواكب ،ويتحدون السلطات،ويستغلون الدعوة الى مواكب يوم الثلاثاء المقبل ٣٠ يونيو ٢٠٢٠ لتحقيق أهدافهم.
أعتقد اعتقادا راسخا بأن لا مستقبل للديكتاتوريين والطواغيت الذين لفظهم الشعب،لكنهم يريدون استغلال ذكرى مليونية ٣٠ يونيو ٢٠٢٠ ليحتفوا بطريقتهم بذكرى انقلابهم في ٣٠ يونيو ١٩٨٩،الذي دمر السودان،وما زال شعبنا يدفع نتائج سياساتهم الفاشلة.
صحيح أن ثورة ديسمبر ٢٠١٨ وضعت نهاية لنظامهم القمعي، لكنهم موجودون ، ويمكنهم اثارة الاضطرابات، وتحويل المواكب التي دعا اليها شباب ثورة ديسمبر الى أهداف لم تعد خافية على أحد.
أحدث دليل يكمن في دعوة قديمة متجددة، اذ طالبوا حمدوك بالاستقالة، وهم الذين كانوا ينافقون الطاغية ، والآن كأن لا علاقة لهم بخراب البلد في كل الميادين.
أعداء الثورة يراهنون على عناصر النظام البائد في مؤسسات أمنية وعسكرية وميليشيات ، ورغم قناعتي أن لا مستقبل للانقلابيين، اذ أنهم معزولون محليا وافريقيا ودوليا، الا أن أي
عدد محدود من المتآمرين في مقدورهم اثارة المتاعب والاضرابات .
قناعتي راسخة بأن (لجان المقاومة) وهم عضد الثورة، كانوا ومازالوا يشكلون أهم مصادر قوتها وعزتها وشموخها، وقد دعوت رئيس الوزراء في مقال سابق الى عقد لقاءات منتظمة مع شباب المقاومة (من الجنسين) ، ليستمد منهم قوة نبض الثورة، وليوظف طاقاتهم في عمليات التطوع والبناء.
لكن يبقى سؤال مطروح للجميع: لماذا لا نغلق دروب التآمر؟
هل من ترتيبات تراعي الوضع الصحي الصعب والخطير ، وتحول دون استغلال الذكرى لتمرير رسائل تنال من ثورتكم،ورمزها حمدوك؟
لماذا لا نحرص جميعا على تعزيز وترسيخ (هيبة) الدولة ، واحترام الموجهات الصحية في زمن (كورونا) لنؤكد مجددا ان ثورتنا (ثورة وعي)؟
ومن المسؤول في حال تسبب الاحتشاد في اصابة شبابنا بفايروس قاتل ما زالت دول كبرى تئن تحت وطأته،وهناك تحذيرات في عواصم عالمية من موجة ثانية للفايروس القاتل؟
إنها دعوة للتأمل..
– لندن
٢٧ يونيو ٢٠٢٠