استهدفت جميع الثورات التي اندلعت في العالم في المقام الأول الإطاحة بالأنظمة المتجبرة والمتسلطة وإقامة انظمة تضمن لكافة المواطنين العدالة والمساواة والسلام والاستقرار ، حتى الرسالات النبوية هي ثورات عظيمة أسست لمعاني العدالة والمساواة في أزمنة ساد فيها الظلم والتمييز .
الثورات العالمية الشهيرة الفرنسية والروسية والامريكية جميعها قامت من أجل الإطاحة بالحاكم المستبد ، وإنشاء نظام عادل يمثل الشعب ، اذا كان هذا شأن كل الثورات فإن ثورة ديسمبر ليست استثناءا، غاية ثورة ديسمبر الأسمى هي الاطاحة بدكتاتورية البشير واقامة نظام حكم ديمقراطي يتم فيه تبادل السلطة سلميا بين المواطنين و يحتكم فيه الجميع إلى قانون لا يميز بين الناس بالعرق او اللون او الدين ، وتطبق فيه معايير العدالة والمساواة .
أهداف ثورة ديسمبر العليا هي الاهداف الازلية و الخالدة للثورات و اختصارا تتلخص في ثالوث : السلام ، حكم القانون ، والتبادل السلمي للسلطة عبر الانتخابات ، وهي جميعا أهداف سامية تقود إلى بناء الدولة الموحدة التي يشترك جميع مواطنيها في صناعتها ، الدولة التي تقضي على الأسباب المزمنة للحروب والفساد ، الدولة التي تتمتع بقابلية التطور والصعود المستمر نحو القمة .
مهم تنبيه الجماهير وخاصة الأجيال الجديدة إلى أن هناك أهداف عليا دائمة وأهداف مرحلية مؤقتة للثورة ، وأن الأهداف المرحلية المؤقتة يجب أن لا تعلو فوق الاهداف العليا والا فشلت الثورة ، هذا التنبيه مهم لأن هناك من يعمل ليل نهار على تغبيش الطريق نحو غايات الثورة العليا ، ويفتح باستمرار مسارات جديدة تنقل الجماهير الى اهداف وقتية مؤقتة تستهلك طاقة الثورة و الجماهير ، وتشيع روح الاحباط والسلبية ، وتجعل الثورة تخور حتى يسهل الانقضاض عليها.
هناك كثير جدا من الأهداف المرحلية المؤقتة للثورة ، كشخص رئيس الوزراء او من هو رئيس المجلس السيادي ، أو هل العسكر يكونون جزءا من الحكومة الانتقالية ام لا ، والقصاص لضحايا الثورة . رغم ما يظهر على الثوار من تشنج تجاه القصاص ، ولكنه في الحقيقة قضية مؤقتة لا ترتقي إلى عظم قضايا السلام والدستور واستدامة التبادل السلمي للسلطة ، القصاص لضحايا الثورة قد يشفي صدور الثوار الحاليين ولكنه لن يكون سوى مجرد خبر صغير في المستقبل قد لا ينتبه إليه احد ، تماما كما لا ينتبه ثوار اليوم إلى تاريخ القصاص من قاتل الشهيد القرشي في ثورة أكتوبر ١٩٦٤ او قتلة شهداء ثورة أبريل ١٩٨٥ ، التضحيات هي الثمن الموضوعي مقابل انتصار الثورة والاطاحة بالدكتاتور ،الإصرار على الاقتصاص للشهيد تجعله مجرد قتيل جنائي وليس قتيل ثورة خالدة ، الاقتصاص للشهداء يحولهم من شهداء إلى ضحايا ، وهو منهج فيه عطب ، وإلا فإن النبي عليه الصلاة والسلام حين دخل مكة منتصرا وعفى عن من قتلوا عمه حمزة واصحابه الأكارم كان مخطئا ! او حين عفى الأنصار عن نميري الذي قتل إمامهم كانوا مخطئين! أو أن مانديلا الذي عفى عن سجانيه كان مخطئا ! كلهم غير مخطئين ولكنهم علموا أن الانتقام يفقدك قيمة النصر ويساوي بينك وبين القتلة .
قرأت عددا من كتابات الاستاذ الصادق سمل والد الشهيد عبدالرحمن ، وجميعها مليئة بالسمو الروحي ، وبالتسليم بأن إبنه لم يستشهد ليقتل بدمه شخص آخر ، بل استشهد من أجل غايات عليا ، تحقيقها هو القصاص الفعلي من القتلة ، القتلة ليس فردا ولا فردين بل منهج تاريخي وثقافة متجذرة تتغذى من مناخات الدم والغضب والانتقام والتشفي، وتموت سريعا في مناخات السمو والتجرد والعفو والتصالح ، هذا والد الشهيد الصادق سمل بهذه الطهرانية وأظن أن جميع أسر الشهداء كذلك ، ولكن لا تبتعد منهم الا خطوات لتجد شخصا لا علاقة له بالشهداء ولا يالجرحى حين تجيء سيرة الشهداء ( يتمرمق ) في التراب ، يشق الجيوب ، ويلطم الخدود ، ويحلف بأغلظ الايمان ان حق الشهيد هو القصاص من الذي قتله بتلك الطلقة!! وكان الذي قتله هو ذاك الجندي الذي صوب سلاحا تعود على تصويبه في كل معاركه وأطلق الرصاصة ، الرصاصة تلك لا تمثل بارودا قاتلا بل تمثل إرثا مستمرا عبر التاريخ ، إرث القتلة من لدن قابيل ولد ادم والى ان تقوم الساعة ، القتل الذي يحاول حماية دولته ، دولة الفساد والاستبداد ، فإذا استطعنا إزالة تلك الدولة فلا حاجة لاغتيال مطلق الرصاصة ، فقد قتلنا البيئة التي أفسدته ، واجلا ام عاجلا حين ننشيء دولة العدالة والحرية ستغرس تلك الأيدي التي أطلقت الرصاصة زهرة في أرض الوطن ، فالانسان إبن البيئة ، من عاش في وسط القتلة سيحترف الاغتيال ، ومن عاش في وسط يزرع الزهور سيزرع الزهور .
sondy25@gmail.com