نعم، نحن مع تعدد الأصوات، وعدم الاحتكار، والإقصاء، ولكن لا يمكن أن تكون الحاضنة السياسية للحكومة الانتقالية بهذا التباعد العجيب، الذي يلحظه رجل الشارع العادي، ولا يحتاج إلى عمق تحليل، واستقصاء معلومات، لأنه واضح عياناً بياناً.
شاهدت اليوم حلقة “حديث الناس” الذي تقدمه نسرين نمر على قناة النيل الأزرق، وهي في رأيي من أميز مقدمات البرامج، فهي لا تفارق نقطة الحوار، إلا بعد أن تشبعها بحثاً واستفساراً، مع امتلاك القدرة على اقتناص اللحظة المناسبة لتفاجئ ضيفها بأسئلة لم يتوقعها، وهذا سمة المحاور الجيد الذي يرضي المشاهد وينوب عنه.
كان الضيفان الرئيسان هما عثمان إدريس أبو راس نائب أمين سر حزب البعث العربي الاشتراكي، والمهندس صديق الصادق المهدي القيادي بحزب الأمة القومي.
عندما سألت مقدمة البرنامج عن كيفية اتخاذ قرار الخروج في مليونية 30 يونيو وتوجهت به على الهاتف إلى مستور أحمد محمد نائب رئيس حزب المؤتمر السوداني بدا مرتبكاً في الإجابة، وخلص إلى أنه يصعب معارضة المليونية من خلال الحزب أو قوى الحرية والتغيير، وأن الأمر متروك للجهات التنفيذية المعنية، وأظهر تحاملاً على وزارة الصحة، وزادت المذيعة أن وزير الصحة مختف في هذه اللحظات الحرجة، في ظل الخوف من زيادة مخاطر انتشار “كورونا” في أجواء انفعالية لن يمتثل فيها الشباب للإجراءات الاحترازية، مهما كان الحرص، والحيطة.
ومع أن أكمل مستور كلامه حتى انبرى له، أبو راس بأن قوى الحرية والتغيير اتخذت قرارها بتأييد المليونية، من دون مواربة، لنقف على مدى التباين بين مكونات قوى الحرية والتغيير، وكان مسوغ أبو راس أقرب إلى “ضرب الودع”، أي تغييب العقل، وترك الحبل على الغارب للعاطفة، إذا قال لا فض فوه إن الفضفضة الثورية أقوى من كورونا، أو كما قال.
وعندما سألته نسرين: كيف؟ قال: كدة، وأخذ يتكلم حديث العواطف عن 30 يونيو، وبدا مرتاحاً.
وأظهرت نسرين التناقض في هذا التحالف بسؤال المهندس الصديق عن وضع حزب الأمة بين مكونات قوى الحرية والتغيير، وهو معلن تجميده، بينما نرى بأعيينا استمرار حضوره في ساحاتهذا التحالف، فقال: إن ذلك يأتي تحت عباءة حزب الأمة، وليس الحرية والتغيير، وطبعاً لم يقنعني كثيراً في هذه النقطة، إلا أنه كان ممتلكاً الحجة عند الحديث عن موقف حزبه من المليونية، إذ معلوم أنه رفضها ببيان لا ريب فيه.
وجاءت الطامة حين وجه أبو راس سهامه إلى وزير المالية د.إبراهيم البدوي، واتهمه بالارتهان للبنك الدولي، ومنتقصاً من أثر مؤتمرشركاء السودان في الجانب الاقتصادي، وإن أشاد بنتائجه في الجانب السياسي، والانفتاح على العالم.
ودافع محمد عصمت رئيس الحزب الاتحادي الموحد في مداخلة هاتفية عن مؤتمر الشركاء، وأثره الاقتصادي والسياسي، وبين أنه نقطة تحول حقيقية، مشيداً بالحكومة الانتقالية.
إن ارتداء أكثر من ثوب في مواجهة الإعلام يعدّ استهتاراً بمدي تأثير الإعلام في تشكيل الرأي العام، واستهانة بقدرة المتلقي على ربط المعلومات والآراء للخروج باستنتاجات عن المشهد السياسي العام، وتحديد مدى قدرة من يمثلون الثورة على تمثيلها، والتعبير عن أشواقها وتطلعاتها.
إن المهددات الأمنية التي لا تخفى على أحد، والتي كشفت الأجهزة المعنية عن تحركات بعض القوى المعادية للثورة، تضاف إلى مخاطر انتشار كورونا، الذي ظلّ يحذر منه وزير الصحة د. أكرم التوم من الوهلة الأولى، وها هو يطالب من بعض من لم يملكوا شجاعة الاعتراض على المليونية أن يقول كلمته، والسؤال: ماذا هم فاعلون إذا حذر، وجاء بالبراهين، والدولة بكاملها تتعهد بحماية المليونية، في تناقض بين هذا التعهد والحظر الذي مدته لأيام مقبلة.
وها هو رئيس الوزراء د.عبدالله حمدوك يعد الثوار بتلبية مطالبهم جميعها، وواعداً بتغيير مسار “الانتقالية” خلال الأسبوعبن المقبلين، وهذا يجعلنا نسأل لماذا إذن نتظاهر؟ وهل للضغط على الحكومة الانتقالية، أم للاحتفال بذكرى 30 يونيو المجيدة، التي تمثل أهم نقاط التحول في مسار ما بعد الثورة؟
إذا وعدت الحكومة الانتقالية بتغيير مسارها، فمتى يتغيّر مسار الحاضنة السياسية، وهي مصدر الإرباك في المشهد السياسي.
ندعو الله أن يحفظ الله البلاد من المهددين الصحي والأمني، وأن يبث الشباب المؤمن بالتغيير، والذي جبل على التصحية روحاً جديدة في ثورتهم، وفي حكومتهم، حتى تحقق بعض ما يرومون من تغيير، والوصول بالبلاد إلى بر الديمقراطية الفسيح، حيث المجال للبرامج لا للفضفضة وكدة.
ومع تفاؤلنا بنتائج مؤتمر الشراكة المثمرة بإذن الله، حتى يمكن الحديث عن سودان ما قبل المؤتمر وبعده، إلا أن رهان البلاد للتقدم نحو غد أفضل وأكثر إشراقاً سيظل على سواعد أبنائه.