خطاب رئيس الحكومة الانتقالية دكتور عبد الله حمدوك الذي وجهه الى الشعب مساء اليوم (٢٩ يونيو٢٠٢٠) مهم، ويضع على عاتقه مسؤوليات جسام، ويختبر الصدقية في أعلى مستوياتها .
الخطاب الذي بثه تلفزيون السودان تكمن أهميته أولا في توقيته،اذ جاء عشية (مواكب) ستنطلق (رغم مخاطر كورونا) غدا في ذكرى (مليونيات٣٠ يونيو٢٠١٩)، حيث حسمت الارادة الشعبية الانتصار للخيار المدني للحكم،ووضعت المجلس العسكري آنذاك أمام خياري التوافق أو الرحيل.
الخطاب تبدو أهميته أيضا في تعهدات أطلقها حمدوك بشأن تطبيق مطالب تلقاها من الثوار (لجان المقاومة وأسر الشهداء) .
أهم ما جاء في الخطاب أن رئيس الوزارء تعهد بتنفيذ ما وصفه ب(المطالب المشروعة بالشكل الأمثل خلال الأسبوعين المقبلين).
هذا تعهد حيوي ويضع على اكتاف حمدوك تحديات الوفاء بتعهداته، وهو يخاطب الشباب الذين قرروا الخروج الى الشارع غدا (رغم مخاطر كورونا).
رئيس الوزارء أشار الى انه تلقى مذكرات لجان المقاومة وأسر الشهداء ،ورأى انها استحقاقات لازمة ستنفذ خلال أسبوعين لتحقيق التوافق والرضا الشعبي.
في هذا الكلام مضامين لروح قيادية تحترم ارادة الثوار، وهم من رحم الشعب العظيم الذي فجر بعطاء بناته وأبنائه ثورة أدهشت الأصدقاء والأعداء.
تعهدات حمدوك شملت قضايا عدة، من أهمها تحقيق السلام والعدالة، وحكم القانون والقصاص بشأن جرائم جرى ارتكابها خلال ثلاثين عاما(فترة حكم الرئيس المخلوع عمر البشير).
حمدوك ناشد الثوار بالتعبير السلمي (في مواكب الغد ٣٠ يونيو)ودعاهم الى الحيطة والحذر،كما نبه الى ان هناك جهات (لم يسمها) ستحاول الوقوف ضد ما سماه (قرارات حاسمة )سيصدرها الأيام المقبلة،وهذا يؤشر الى وجود مؤامرات ومعلومات في هذا الشأن .
حمدوك دعا من سيخرجون الى الشارع غدا (٣٠ يونيو ٢٠٢٠) الى مراعاة الجوانب الصحية، هذا معناه أن الحكومة وجدت نفسها أمام تحديات الأمر الواقع الذي صنعته بنفسها، كما صنعت وتسببت في هذه الأجواء الغاضبة (قوى الحرية والتغيير) بتشرذمها،وهي أيضا لم تستطع الوقوف أمام قوة التيار الشبابي الثائر،وسايرته وركب بعضها الموجة و رفع مطالب ضد حكومته!.
أعتقد أن لجان المقاومة والشباب عموما قد فرضوا ارادتهم على الحكومة التي هي نتاج ارادتهم، وهذا يحدث رغم المخاطر الصحية المتوقعة،التي أشرت اليها في مقال سابق.
لجان المقاومة وأسر الشهداء شددوا على انهم سلموا رئيس الوزراء (مطالب مشروعة) وأرى أن لهم كل الحق في ذلك، وهي مطالب مشروعة واحد قبولا شعبيا واسع النطاق.
هذا يعني أن أداء الحكومة خلال الفترة الماضية لم يرق الى تطلعات الشباب،ولو كانت الحكومة نفذت ارادة الثوار واقتربت من نبضهم،كان يمكن أن تحدث تفاهمات حتى بشأن كيفية تسيير المواكب في زمن كورونا .
أشرت في مقالي في ٢٨ يونيو ٢٠٢٠ (أمس) الى مخاوف بشأن وجود متآمرين ضد الثورة وحكومتها والسلطات الانتقالية ، وجاءت تفاعلات الأحداث (اليوم) لتؤكد ذلك.
خطاب حمدوك تضمن ما يشير الى تفاعلات متوقعة ،خصوصا بعدما يصدر قراراته خلال أسبوعين،أي ان هناك من يحبك خيوط مؤامرة .
أشير الى أن حكومتنا ومجلس السيادة تعهدوا في وقت سابق بتنفيذ خطوات عدة ولم يحدث ذلك، وبينها تحقيق السلام في ستة أشهر ، وتنفيذ (مصفوفة) كانت اتفقت عليها أطراف السلطة الانتقالية، وتحقيق العدالة ورفع المعاناة عن كاهل الشعب .
الآن لا خيار أمام رئيس حكومتنا الانتقالية التي أدعمها سوى إصدار قرارته (الحاسمة) المنتظرة، ونأمل أن يكون الحسم يشمل أداء وزارة مهمة وحيوية لها علاقة وثيقة بتشكيل الرأي العام.
أعني وزارة الاعلام التي تحتاج الى قوانين توازن بين حرية التعبير وبين حماية الثورة ، أي قوانين تصون دماء الشهداء والجرحى والمفقودين، وتحمي الخيار الثوري الشعبي.
انقلاب ٣٠ يونيو ١٩٨٩ مهد له الانقلابيون بعمليات تدمير وتشويه للنظام الديمقراطي، وكانت هناك غفلة حكومية وحزبية بشأن دور الاعلام في حماية خيار الشعب الديمقراطي.
لا يعقل أن تتكرر في الاعلام خلال فترة الحكومة الانتقالية الحالية دعوات علنية الى انقلاب عسكري،والكثير من الأساليب الموغلة في الاسفاف .
هل هناك غفلة وتفريط أكثر من الفشل في التفريق بين حرية التعبير وبين ما تعنيه حملات مدروسة لتدمير حكومة الثورة وتهيئة الرأي العام لانقلاب أو تخريب سياسي او عسكري من خلال (تخريب اعلامي) ملموس ومحسوس؟
أدعم حرية الاعلام و حق الصحافيين في التعبير الحر والحماية من دون حدود .
لكن اتساءل هل توجد دولة ديمقراطية عريقة كبريطانيا مثلا أو أية دولة يمكن أن تغض الطرف بوعي أو بدونه تجاه دعوات انقلابية؟.
تلك الدعوات السامة في السودان تنطلق احيانا من اشخاص لا علاقة لهم بالعمل الصحافي من قريب أو بعيد، و دخلوا ميادينه عبر الشباك نتيجة (انقلاب)؟
محتاجون لتشريعات تحمي الحريات وخيار الشعب الذي تحقق بدماء ودموع وأوجاع ، وايضا لتوقف بالقانون العادل عمليات التشويه والشتم والقذف والقدح وفبركة الأكاذيب الضارة والمدمرة،من أجل اعلام حر يسمو بنهجه ولغته الى مستوى الصحافة الحرة والراقية والمسؤولة أمام الشعب والقراء .
محتاجون أيضا الى أن تصلح قوى الحرية والتغيير، وبينها تجمع المهنيين، حالها ،فهي في رأيي المسؤول الأول عن غضب الشباب حاليا تجاه الحكومة بسبب فشل تلك القوى في المرحلة الماضية في الزام الحكومة ببرنامج محدد.
كما فشلت في اعادة الهيكلة بسبب رفض غريب وعجيب لتنظيم الصفوف، وأخيرا قالت انها ستجتمع لتوسع قاعدتها وترتب أوضاعها .
قوى الحرية اتفقت قبل أيام على عقد مؤتمر شامل في يوليو المقبل ، ليوسع قاعدتها ويضم على سبيل المثال لجان المقاومة ومنظمات مجتمع مدني،والهدف الأكبر تنظيم صفوفها المتناثرة وتحديد أولوياتها وبرامجها .
اذا تم ذلك ستقوى الحكومة وسيكون هناك برنامج ملزم لرئيسها ووزرائه ،لأنها تشكل (الحاضنة السياسيه).
خلاصة الرأي ، أكرر أن حمدوك يحظى باحتضان شعبي غير مسبوق،خصوصا من الثوار الشباب ، هذا يعني أن يرتفع نبض الأداء والتغيير الحكومي المدروس والشامل والعادل والحاسم الى مستوى هذا الجيل الشبابي الرائع،سواء تعلق الأمر بالسياسات الداخلية أو الخارجية.
نحن بانتظار القرارات الحاسمة خلال
أسبوعين لتبدو لنا اتجاهات البوصلة..
وننتظر أيضا أن تغادر قوى الحرية والتغيير في يوليو المقبل مربع اللافاعلية الى ميدان العمل الجماعي.
محمد المكي أحمد- لندن
٢٩ يونيو ٢٠٢٠