• لا يمكن اختزال قضية تجمع المهنيين في حادثة السطو على صفحة تواصل اجتماعي أو رفض الاعتراف بنتائج الانتخابات الداخلية، بل ينبغي النظر اليها في سياق صراع سياسي يجري تحت انظارنا في كل المحاور، وهو صراع يرتبط بمسار الثورة والدولة في آن واحد.
فالمجموعة التي تقود حاليا حالة التمرد التنظيمي، وتخرق كل القواعد في سبيل البقاء على سدة القيادة، ظلت منتخبة ومتربعة على قيادة هذا الجسم، لم تغب عنها الإ بسبب ظروف الاعتقال خلال أيام الثورة، وما أن خرجت من المعتقل حتى تولت من فورها زمام المبادرة، وقادت أهم وأخطر المراحل واتخذت أخطر القرارات وتقلدت اكبر المسئوليات، ويمكن تتبع الأسماء المكررة التي تكاد تكون قاسما مشتركا في أغلب اللجان التي تم تشكيلها حتى يحار العقل كيف يستطيعون العمل في كل هذه اللجان، وكأن حواء البلاد عقرت من بعدهم، سوأ كانت لجان الترشيح للمناصب الحكومية والخدمة المدنية، أو تصفية التمكين، أو لجان التفاوض، بل حتى اللجان السياسية وبطبيعة الحال داخل لجان الحرية والتغيير، بخلاف الوظائف الاستشارية غير المعلنة لهذا الوزير أو ذاك.
اتسم أداء هذه المجموعة بتجاوزات عديدة، وقد أوضحت من قبل في قراءة سابقة حول انتخابات التجمع بعضها، وردود الأفعال التي قادت اليها من خلافات كبيرة أوشكت مرارا على تفكيك وحدة التجمع.
وقد ظلت قضية المؤسسية الغائبة موضع صراع استمر لفترة طويلة داخل التجمع، وقد خلق ذلك الوضع اصطفافا عبر عن نفسه كثيرا، من خلال البيانات والمذكرات الرافضة للقرارات والمواقف التي تمت دون اشراك أجسام التجمع وقيادته فيها.
ومما يؤسف لها ان كثيرا من القرارات كانت امتدادا لمواقف بعض القوى خارج التجمع غير المتفق عليها، وتماهيا مع حلف باطني ظل ينفرد بالقرار في غيبة الأخرين حتى على مستوى تحالف الحرية والتغيير، وهو ما أثار غضب جهات عديدة مثل حزب الأمة والجبهة الثورية والحزب الشيوعي وتجمع القوى المدنية التي طالبت اغلبها بهيكلته، وانتقدت كثيرا من القرارات التي تصدر دون عرضها داخل الهياكل القيادية للتحالف، لذلك ينبغي أن تخضع الفترة منذ بدء التفاوض العام الماضي وحتى يومنا هذا لتقييم وجرد حساب، حتى يعلم الشعب كيف تمت صناعة كثير من القرارات التي أثارت الجدل ولا زالت، وكيف تمت ومن كان خلف صدورها.
إذن.. ما حدث عقب انتخابات التجمع هو انتقال الاختلاف والصراع لمرحلة مكشوفة، بعدما كان حبيسا خلف الأبواب المغلقة، لذلك فإن رفض نتائج الانتخابات هو رفض لمسار مختلف للذي أراد اصحابه ان يمضوا بالبلاد على طريقه، هذا المسار سيقود ضمن مجهودات تبذل على كافة الاصعدة لاسترداد القرار السياسي، من أيدي قلة مارست الانفراد بالرأي في إدارة العملية السياسية في أحلك لحظات البلاد والثورة حرجا، وتكشفت ثمارها المرة بكل الاشكالات والاخفاقات التي ترتبت عن مسارها.
لا تمثل قضية أو محاولة شق واضعاف التجمع وسرقة صفحته على وسائل التواصل الاجتماعي أي أهمية في هذا السياق كحالة منفردة، الا في كونها تعبيرا عن طريقة كاملة كانت هي اسلوب إدارة الشأن العام طيلة مرحلة ما قبل وما بعد تشكيل الحكومة الانتقالية، وآن لهذه المرحلة أن تنتهي وتراجع جميع اخفاقاتها.
والذين يعتبرون أن مرحلة التجمع قد ولت وانه ليس هناك سبب لبقائه يتجاهلون حقائق الواقع، أن التجمع مهما كانت اخفاقاته فهو جزء من ضامني ومؤسسي هذه المرحلة القائمة وشهودها، وتبعا لذلك فان وجوده جزء من شروط سلامتها اجرائيا، كما ان البعض ووفقا لهذا التقدير يشير لعقد الجمعيات العمومية وانتخابات النقابات، كأنما ذلك يعني اسدال الستار على حقبة التجمع بخيرها وشرها، وهو قول غير سليم ويتجاهل الحقيقة التي أشرنا اليها اعلاه، وسيؤدي لطمس الحقائق، التجمع من ضمن مؤسسات المرحلة الانتقالية، والمحافظة عليه من ضمن مهام القوى الحريصة على سلامة الانتقال.
من يريد أن يرى صراع تجمع المهنيين باعتباره مجرد صراع على المقاعد أو على التحكم في صفحات تواصل اجتماعي له ذلك، ولكن ذلك لا يبدل طبيعة وحقيقة ما يحدث.
هذا الصراع ليس فقط من أجل مسار الفترة الانتقالية وبسببه، انما يستبطن في جوهره جزء من عقلية شمولية تقوم على رفض الانصياع لخيار الديمقراطية وعدم تقبلها، ومحاولات تكريس الهيمنة والانفراد بالرأي وتجاهل إرادة الأخرين، ومحاولات الباسه ثوب التكتل الحزبي هو ذر للرماد في العيون ومحاولة لإخفاء ودفن الأخطاء الكبيرة التي حدثت طيلة الفترة الماضية، وإهدار لحق الاختيار والمحاسبة، وهي اساليب ما ابقت فيها الإنقاذ من قبل للأخرين شيئا.
ما حدث بالأمس لم يكن مجرد سطو على صفحة تواصل اجتماعي، انما كان سلوكا نموذجيا يشرح بجلاء عدم إحترام المؤسسات، وهو إمتداد لكل ما ظل يحدث ممن قبلوا ذات يوم بتغييب هذا الجسم المهني، واتخاذه ستارا لتمرير القرارات وتسنم المواقع باسمه، والمشاركة بشكل انفرادي في كل القرارات الخاطئة التي اضعفت الفترة الانتقالية، وقزمت ما قام به الشعب من ثورة عاتية لمحض وثيقة مليئة بالثغرات، لم تراجع وصار يتبرأ منها حتى من صاغوها.
ان ما نراه من خلاف يحتم على قيادة التجمع الحالية إجراء مراجعة جذرية لكل ما تم منذ الحادي عشر من ابريل ٢٠١٩م وحتى اليوم، وتحديد أدوار الجميع وكشف ما قام به من تسنموا المواقع باسم التجمع للشعب، واجراء نقد ذاتي عن كل الاخفاقات التي لازمت تلك الفترة، وبالتأكيد اتخاذ موقف جذري وحاسم ضد تلك الممارسات، التي تتعارض مع تقاليد وقيم العمل العام، وعلى راسها السطو والتعدي.