عندما تكاملت اعداد المجاهدين الانصار في ليبيا وكان معهم ما يربو من الاربعين شخصا من عناصر الاتجاه الاسلامي وبتدبير محكم من قيادة الجبهة الوطنية ممثلة في السيد الصادق المهدي وبعد ان اختارت قيادة عسكرية للعملية، بدا تسلل جماعات الانصار الي السودان وفي مجموعات صغيرة .كان قائد العملية العسكرية هو الشهيد العقيد محمد نور سعد من جذور انصارية فصله نميري من الخدمة فهاجر الي المانيا ومنها استدعي الي ليبيا. ولقد كانت الخطة تقتضي ارسال السلاح ودفنه في اماكن قريبة من امدرمان حتي تحين ساعة الصفر،
كما حددت اسماء ضباط في القوات المسلحة للاتصال بهم والتنسيق معهم مسبقا كشرط ضروري للقيام بالعملية. ونتيجة لظروف لم تتضح بعد لم يتم التنسيق الكافي والقيام بتلك الخطوات، فقرر قائد العملية بدأها في 2/يوليو وكان اليوم يوم جمعة وكان المنفذون هم ابناء اصلاء من صلب هذا الشعب . لقد بدات عناصر المجاهدين هجوما مباغتا وقويا في فجر 2/ يوليو 1976 علي اهداف مختارة بعناية منها مطار الخرطوم بحيث يتزامن ذلك مع وصول جعفر نميري من زيارة له الي الولايات المتحدة الامريكية. وقد نجا نميري باعجوبة من هجوم المطار وفر والخوف يملا جوانحه كفأر مرعوب. لقد كانت هنالك اخطاء قاتلة ادت الي انقطاع المؤن الغذائية عن جموع المجاهدين ولكنهم ابلوا بلاء حسنا في سحق كل قوة وقفت مدافعة عن نظام الجبروت المايوي، فقد جندل قائد مخابرات جهاز مايو اللواء منور . لقد كان هنالك خذلان وتامر من قيادات الاخوان المسلمين في السودان امثال علي عثمان محمد طه،
لرفضه التجاوب والاتصال بكوادرهم العسكرية في الجيش لابلاغهم بهوية الحركة واهدافها الوطنية، رغم ان عناصرهم القادمة مع المجاهدين قد اشتركت في معركة دار الهاتف ومنهم غازي العتباني. كما لم تفلح محاولات الاتصال بكادر اذاعي يمكن قائد الحركة من اذاعة البيان في وقت مبكر ليعرف الشعب السوداني ما كان يدور . ولا بد انه كان للمخابرات المصرية ضلعا في نجاة نظام نميري من مصير محتوم لانها امدته بمعلومات عن تجمع قوات الجبهة الوطنية في صحراء ليبيا وهبت استخباريا في ساعات الانقضاض ونسقت مع قادة موالين لنميري ومكنتهم من اعادة ترتيب صفوفهم. منذ ساعات الهجوم الاولي بدا اعلام نميري المسموع والمرئي بث اشاعات ان هناك غزوا اجنبيا يجتاح البلاد، دون ان يقابل ذلك اعلام من الجبهة الوطنية لنفي ذلك وتاكيد انهم مواطنون سودانيون خلص بل هم ملح هذه الارض وحماتها. ورغم ما حل بالمجاهدين من اخفاق، فقد استطاعوا ان يدكوا حصون النظام وان يبثوا الرعب في دهاقنته وسدنته حتي فكر كثير منهم في الهروب والاختفاء عن الانظار . في تلك الساعات العصيبة من الجوع والعطش وانقطاع الامداد صبر المجاهدون وقاتل كثير منهم حتي الرمق الاخير ونفاذ الذخيرة فمنهم من استشهد ومنهم من وقع في الاسر ومنهم من طالته اصابات وجروح مميتة،
بينما تمكن اخرون من الانسحاب، اما قائد الحملة العقيد محمد نور سعد فقد اعتقل في نواحي الدويم بعد ان بلغ عنه احد الوشاة. نفذ حكم الاعدام في قائد الحملة وكثير من المجاهدين وذلك في الايام الاولي لاسرهم وقد واجهوا الموت بثبات حير السجانين واسيادهم الطغاة وصبروا صبر الكرام لصنوف من التعذيب والتنكيل قبل ان يعانقوا الموت اعداما على يد نظام مايو. لقد تسني لي ان اقابل بعض الاحباب الناجين وبدا كل منهم يحكي لي قصة نجاته من موت محقق ، وقبلها وانا اذ ذاك صبي يافع في 76،
فقد شاهدت بام عيني اسر احد المجاهدين من سكان قريتنا والذي غادرها عام 70، ملبيا نداء الهجرة الي الحبشة وكان ابنه يدرس معنا في فصل واحد . كان ذلك الحبيب الشهيد هو محمد حامد ابو القاسم من اهلنا المسلمية حفيد الامير طه ود ياسين احد ابطال المهدية . لقد حضر هذا الحبيب الي اهله في قريتنا حوالي الساعة الواحدة ظهرا في اليوم الثالث الذي اعقب الواقعة، وما دري ذلك الحبيب الشهيد بان للنميري عيونا حتي في قريتنا ومن اقرباء الشهيد . وماهي الا دقائق الا وقد حضرت شرطة القرية وطوقت بيت الشهيد العائد وطلبوا منه الصعود في عربة اللوري ونحن الصغار ننظر ونشاهد . كنا نري افراد الشرطة يصعدون الي سطوع العرايش والرواكيب والبيوت المتواضعة بحثا عن سلاح .
والشهادة لله فلم نسمع بنواح او خوف او جزع ينبعث من اهل البيت او اقربائهم ولا حتي الاطفال بل بقي الهدوء والصمت يلف المكان، وكان البطل الشهيد في اتم الهدوء والسكينة ورباطة الجاش وهو يقف بقامته المديدة داخل اللوري . وكنت احدق النظر اليه فاذا هو شاب يمتلا رجولة وعزة ونخوة، قوي البنية اصفر اللون وفاقعه . غادرنا المكان قبل ان يغادر اللوري ويحمل الشهيد البطل الي مخفر الشرطة في قريتنا. في صباح اليوم التالي وانا اركب رديفا لوالدي في حمار متوجهين الي حواشتنا، فاذا بالحبيب الهادي شقيق الشهيد يحمل شاي الصباح الي اخيه محمد حامد الذي وقع في اسر جلاوزة النظام واستلمته ايديهم في قريتنا، فامتلا قلبي حزنا وكمدا وانا الصغير واتامل حال الاسير البطل واتعجب من صمود وصبر اسرته واهله ومن يومها غاب عنا ذلك الحبيب الشهيد البطل، حيث سافر الي عوالم الشهادة والبطولة والفداء سيرا على درب آبائه الميامين .
نواصل.