أقلعت بنا المركبة الفضائية من مطار كيب كينيدي، مغلفة بزوابع دخانية، وهدير محركات مثل هزيم الرعد، ما تأتى لنا القاء نظرة أخيرة، على الطرقات التي احتفلت بوجودنا، لعقود من الزمان، ولا قمنا بعزاء القوم، صرعى الكورونا، يسعون في الطرقات ضحايا، لهموم الفواتير، والأنباء الأقتصادية المزعجة، لم يتأت لمعظمنا، اللحاق والتمتع بمذاق قهوة الأستار بكس، لآخر مرة، أو حتي قهوة (سفن الفن)، والتي وصفتها المغربية، بأنها مثل بول الحمار وذلك أضعف الأيمان. حلقت بنا المركبة في بحر الظلمات، لحظات ونحن خارج نطاق الجاذبية الأرضية، سبحت قشور الموز، والعنكوليب، والقفف الفارغة، والمخالي، واكياس التمباك بماركاته المختلفة، في سماء الكابينة، وحلقت خفيفة، علب البيرة الفارغة، وبراميل بلاستيكية، تخص اخوتنا البنغال، اتوا بها من مسقط، لسبب لا يعلمه الا الله وحده، ثم جاءتنا بشارة القبطان، عبر سماعات السقف، مذكراً لنا، بأننا قد دخلنا المجال، الذي تنعدم فيه فاعلية الزمن، فأطلقنا صيحات النصر، بكل اللغات..بووووما ياي.، والبعض وايووووي، تيمناً ببوب مارلي.
وعلمنا بأن سنة ضوئية قادمة، لن تكون بذات أثر على هيئتنا، وأننا سنصل (عطارد)، بأعمار تعادل التي غادرنا فيها الأرض، تزيد أو تنقص قليلا.
من النافذة، كنت أبصر في وضوح، مراكب فضائية عديدة، يقودها بعاعيت وسحاحير، وغير قليل من اولاد ود ام بعلو، وأولاد اب حراز القدامي، من كل الفئات وكل الرتب، مركبات تطير بقوة دفع الأجنحة، وبعض بزيت البركة، وبعض بالزعانف.
قدمت لنا وجبة العشاء، فول حاجات ، وعكو ضنب الكديس، ومشويات من حمام الجحور، والتي هي في حقيقتها (جقور)، سهر على راحتنا طوال الخدمة ، جماعة طيبة منتقاة من شباب التاكا، إلا انني عزفت عن الأكل، بسبب من اسرافي في تناول طحنية سعد، وجملة من الحلويات، التي انتهت صلاحيتها، اشتهرت ببيعها معظم البقالات الحلال، في أمريكا، وكان ذلك قبل مائتي عام بحساب أهل الأرض.
طلبت هيدفونز لسماع الموسيقى، أتسلى بها، فجيء بقرون جاموس حي، من سلخانة الأزيرقاب، مددت ساقى، و بدأت في الإستماع إلى موسيقى الدساتير، في هدوء وصبر، وكان بشير الحبشي، وفي رواية قومية، الهدندوي، مشرفاً على احتياجات النساء، الكواديق والكشحات وما شابه، ثم انني تحسست حقيبتي، فتحتها، ومن بين الأوراق، والأضابير، والصور التذكارية، استللت ورقة عقد العمل العطاردي، كم كنت محظوظا، بفوزي بوظيفة (غرزنجي)، في مؤسسة ( جلا لأعمال الكج و السواجير)، تتلخص مهمتي، في دق الغرز، ووضع النفاثات في العقد، في طريق كل ناجح و طامح، وكل متطلع، ومن مهامي، تدبيرات الشلب، ومساعدة النساء الطموحات، في تحقيقه، ابتسمت في سري اكتفاءاً، فأنا سوداني أصيل، أدرك هذه الأمور بالغريزة. وتصورت سعادة اهلي، وهموا يتلقون النبأ السعيد، فيصيحون في جذلٍ: ( يستاهل و الله عامل راسو الكبير ده، من صغير غتيت).
خمسمائة عام مضت الى الوراء، فتقلصت ذاكرتي، حتي آلت إلى حجم ذاكرة نملة، نسيت دروس العصر، وجر الحبل، والفات فات في ايدينو، والسمين يقع والضعيف يقيف، وكل ما يمت إلى بصلة، عدا حادثة فقدي لطراده يتيمة، في زقاق مريب بالحصاحيصا، لم أعد أذكره حتي، لعله حلة ( بردب بردب)، ثم انني قرأت هذه الجملة، المكتوبة بخط انيق على باب كابينة القيادة… (داس مشاعرنا و حصل)، لم يقدر عقلي، على تفسيرها، للوهلة الاولى، إلا أن العرب اتفقت فيما بينها، أن المعني الجائز، أنها تعني، الإشارة إلى انقلاب عسكري.
أمام مقعدي، وعلى ظهر المقعد الذي يتقدمني، مخلاية، بها صحف ومنشورات حزبية، وورق مخصص للتدريب على كتابة (العمل)، وكرتلات، وورق برنسيس، عليه خاتم ( النوع الأصلي)، لا حاجة لك بللصمغ، لتركيب اربعة كروت، فإذا زاد عن أربعة، فاحذر الهلوسة، أو أن تلحق بك، لوثة سقاية الريحان، حتى لحظة انهيار الحيطة، و حيطة الجيران.
وصلنا مطار عطارد، في سنة لا أقدر على رسم رموزها، ولكن دعنا نسميها مجازا (س13)، ولبهجتي وحسن طالعي، وحقنا لتفاؤلي، الذي بدأ في التناقص، فإن اسم رجل الجوازات الذي تولى خدمتي، كان للصدفة المريبة ( ع. كباشي)، وزميله في قن الدجاج، (أنس عمر)، (فتوجست) خيرا، وحانت مني انتباهة، فرأيت صورة معلقة على الحائط، من خلفهما، كانا يقفان فيها، مع جملة من الزبانية، والسيد (قوش)، فاغرا فاه بكلمة ( جبنة)، مصطفين أمام مبني من الطوب الأحمر، يطل على النيل الأزرق، وجروفه الخضراء، لا هو بفندق، وما هو بالملهى، وليس بالهابي لاند، ولا دار عبادة، ولا أرض منتزعة إسمها الكافور، ولا مكان تلتقي فيه الأسر للأنس و المؤانسة، تراه من موقعك أن كنت عابراً على الكبري، الذي تواضع الناس على تسميته (كبري الجيش)، وحركات الجيش، وعظم أمره عند الخلق، حتى سموا حيا كاملا بأسمه، تخليدا و إعجاباً، و غنت البنات- بلابل الجزيرة – في هذا المعنى، أغنية حب خالدة تقول كلماتها، سجن كوبر يا المسجونة فوقو..جوني العوازل و جابو ليا روقو..الخ الخ.
كنت مجهداً، حين ودعت (عاصم كباشي) و ( أنس عمر)، فلم اتبين لافتة صغيرة، في صالة الوصول، مكتوب عليها (بني كجة اونلي)، حتى دلني عليها عفريت ناشىء من اولاد (صنقعت)، تبعت اتجاه السهم، حتى أتيت إلى ساحة، تشبه ساحة ميدان الأمم المتحدة، في زمن منقرض، وهنالك رأيت، (قيزان الليمون) اب ماركة، منصوبة يئز الذباب حولها، وإناث الأنوفليس على حوافها، مثل ( نحل في البرية هائم)، أو كما قال الشاعر. تآنست وجمع البني كجة، وتطرقنا في معرض حوستنا المعرفية، إلى ما آل اليه امر الإقتصاد الأمريكي، بعد الجائحة، وخلصنا في لحظة صدق نادرة، إلى أن سبب الإنهيار الرئيسي، حدث نتيجة لتغول ( دبايب) العالم الثالث، على أرض العم سام، قدموا أرض الخال سام، يقصون قصصاً عن الظلم والمسغبة، فاضت لها الأعين الزرقاء دمعاً، ودِما، وانفطرت لهولها قلوب الشقراوات، الغير عذراوات، حزناً وأسفا، حكايا عن القهر والفقر، والتهميش، والإستبداد، الحاصل والما حاصل، فتولتهم وتولتنا جهات رحيمة، واسكنتهم كلاكلات جديدة، وصرفت لنا الشورتات، وهدايا (ميكي) و(سمير)، والتقينا بسوبرمان والوطواط، الذي لا يزال ( عزابي)، وبلغ العطف بالرجل الأبيض مبلغا، حتى صرح ذات يوم (ياخي مش البيت الأبيض ده، زاتو شيلو)، فشلناو.
ثم اشتد عود المهاجرين، فأشتروا العقار، وبدأوا في مغازلة السستم، فأخذوا شيكات الويلفير، حتى وإن لم يستحقوها، واشتروا بالثمن البخس، شيكات فقراء السود، وأعطوهم مقابلها قوارير بيرة (الريد بول) الباردة، وبعض كراك كوكايين، وعبث بعضهم بالقوانين التي تحكم التجارة بين الولايات، فهاجروا بالسجائر (إعتمادا على تطبيقات نظرية تجارة الشنطة) ، سافرو بالتبغ، من أقاصي الجنوب، إلى أقاصي الشمال، فأصابوا ربحاً، وأختبئوا من جباة الضرائب، بكل مظلات الخداع الممكنة، وصرف بعضهم عوائد الضرائب، آخر العام، بأسماء أفراد أسرة لا يعيشون في امريكا، ولا يزالون بام بدة، آخرون ناموا على مراتب محشوة بالدولارات، حتى لا يتورطو، في مشقة تحسين نظم الحياة، في المدن التي آوتهم في أحضانها، في المقام الأول، و قد أتانا من نبأ أهلنا الذين اشتهرو بالقرصنة، أن حاكم ولاية حلوا فيها، بكى وشكى لطوب الأرض، من أمر قضاءهم على الأخضر واليابس في ولايته الآمنة، وإعلانه عن انهيار نظام رعاية ولايته الأجتماعي والصحي، والذي ظل صامداً، في وثوق ومفخرة، طوال ثلاثمائة عام، حتي امتلات المستشفيات بالدبايب، كل يحلم بميلاد باكورة إنتاجه، على ثرى الأمبراطورية الرومانية، يحصل فيها على جائزة السيتيزينشيب، وحم وفحوصات، وتشهي، حتى يخرج ( قرمبوز) راضياً مرضيا، حاملاً الجواز، ينمو ويترعرع، باتجاه (مامون حميدة)، أو مليشيات الشباب، او يعلن عن انضمامه لجمعية الهكر الخيرية.
بدأنا أول عهدنا بسرقة الكيبل، وأرقام التلفونات العالمية، والتي تولت ادارة بيعها علناً، في (تايم سكوير)، قيادات تنظيمات شباب جزر الكاريبي، تصل الفاتورة الى السيدة ( ماري سميث) في نهاية الشهر، ثلاثة آلاف دولار محادثات، إلى الدويم ولاغوس وتنقاسي السوق، وكشمير وكينغستون وحفر الباطن والسيدة زينب، وخمسمائة لغة ولهجة، لا تتقن منها السيدة (ماري سميث) سوى لهجة الجنوب الأمريكي…هاودى!!!!
ثم ظهر تقاة المواقع في جزيرة العرب، والذين يصرون على ختم تشكراتهم لسارق السوفتوير، بآية قرآنية مشكلة مرتلة، والحاق ذلك بطلب بسيط ( ابي الكيجين تبع الفوتوشوب الله يخليك، ويجزيك خير، ترى المرة الأولى ما ظبط معي يا ابو سامر).
عينهم الغزاة وقطاع الطرق، الذين قضوا على حضارة تمبكتو من قبل، أما الصينينون، فلا عمل لهم عدا (الداون لود)، لكل شىء، الأفلام والأغاني وأسرار الحملة الأنتخابية، إن سهوت عن فنجان قهوتك، انزلوه ساخنا. بقي أمر بطاقات الإئتمان، ولذلك حديث آخر.
حملت حقائبي، وخرجت إلى معانقة طرقات منفاى الجديد، ترقد امامي مدينة ( عنكاص) في هدوء ودِعة، ثم أخذتني عربة الأجرة التى تجرها السحالي، لقضاء ليلتي الأولى في فندق.
( دخل ايدك في الجراب..أوعى من الفاضي).
أو كما قال.