رواد محطة الفضاء التابعة لوكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) أعجبتهم صورة التقطوها لسلسلة جبل مرة الشاهقة الممتدة على طول ٧٠ كيلومتر من الشمال إلى الجنوب. أدهشهم هذه الكتلة من البراكين وتدفقات الحمم وفي وسطها رواسب حرارية بركانية. يبدو جبل مرة، من الفضاء، واحةً خضراء جذابة على مقربة من خط الاستواء. وهو عبارة عن فوهة بركان خامل انفجر قبل ٣٥٠٠ سنة تقريباً.
بطقسه الجميل طول العام وارتفاعه الشاهق ومياهه العذبة المتدفقة، يعد معلماً بارزاً يأسر اللب، ليتمنى الزائر لو بقي فيه أطول وقت ممكن، مستروحاً إليه، صارفاً نفسه عن شواغل وهموم كثيرة.
على سفوح الجبل، إلى الغرب منه، تبدو نيرتتي عروساً في «رحط» موشى بالسحب الداكنة والبروق الواعدة. ظلت سُرّة دارفور، بل أجمل بقعة في السودان قاطبة.
فهي تتوسط سلطنة دارفور التي استعصت على الحكم الإنجليزي مثلما استعصت من قبل على المهدية والتركية. في عهد الحكم التركي، تمردت دارفور وظلت صعبة المراس. ورغم أن الزبير باشا، وفي سياق فتوحات إسماعيل باشا في السودان، قد توغل في دارفور ودحر السلطان إبراهيم، من قصبة الإقليم في دارة، الواقعة شرق نيالا الحالية، إلا أن الحكمدار في الخرطوم أيقن يقينا لا يكتنفه شك في أن «أهل دارفور لا بد وأنهم يعاودون العصيان»، حسبما أورد الدكتور مكي شبيكة في السودان عبر القرون.
كذلك تمردت سلطنتهم على الدولة المهدية. ففي ١٨٩٨م أنهى السلطان محمد عجيب ود كودة هيمنة المهدية، ليعلنها في عبارة وجيزة: «ربنا أكرمنا واعتقنا». فقد كانت المهدية في نظرهم استعلاء وهمجية، وهم الذين أخذوا من الحضارة بنصيب وافر يضرب بعيداً في جذور التاريخ.
بالفعل تُركت دارفور في وضع شبه مستقل، تقرر أمورها كيفما شاءت دون تدخل يذكر من المركز. وبمجيء جماعة الإسلام السياسي في ١٩٨٩م، ادخلت دارفور في أتون حرب أهلية استفحلت لتصل إلى حد التطهير العرقي. جُلبت قبائل كاملة من دول الجوار ووطنت في المنطقة، بعدها اضطر أهلها إلى دخول معسكرات النزوح. في هذا السياق، وقعت أحداث ٢٠٠٣م، لتهز البشرية وتؤرق ضميرها ولتتحول إلى ملف قضية مكتملة الأركان أمام المحكمة الجنائية الدولية. كانت تلك أيضاً المرة الأولى التي يوظف فيها الاغتصاب سلاحاً في النزاعات. لكم كان ذلك جرماً صادماً خلّف جرحاً عميقاً في الضمير السوداني.
باعتصامهم الحالي، يضع ثوار وثائرات نيرتتي أقدامهم الراسخة على أعتاب ثورة تصحيحية تسعى إلى وضع مطالب الشارع موضع تنفيذ فعلي. إنهم يطلبون استتباب الأمن والسلم، ولقد طالما ظلا غائبين خلال سنوات الإنقاذ المشؤومة. بذلك الأمن والسلم وحدهما يستطيع إنسان نيرتتي التفرغ لحراثة الحقول وبستنة الجناين المنبسطة على امتداد البصر.
ما بعد الإنقاذ، بات الأمن والسلم في دارفور مطلباً عزيزاً يصعب تحقيقه. إذ انتشر السلاح في أيدي الناس. بعض القبائل تملك أسلحة وعتاداً وخبرات قتالية واسعة! كان سهلاً تهريب السلاح، الخفيف منه والمتوسط والثقيل، من دول الجوار ومقايضته بالسلع السودانية كالوقود والسكر والصمغ العربي. نشأت هذه التجارة بإيعاز من الإنقاذ ومباركتها، بل ترعرعت بين أيادي عملائها وتجارها ونافذيها. في سنوات سابقة للإنقاذ، لم يكن إنسان دارفور يعرف سوى السلم والوداعة. يلتقون في الشوارع، فيطيلون العناق وعبارات المجاملة في حميمية، بل ربما يذرفون الدموع حرقة على ألم فراق طال. كثيراً ما يرددون: عافية… طيبين.. عافية.. طيبين. بلا ملل يفعلون.
الآن، وعلى ضوء الزيارة الموفقة لوفد الحكومة الانتقالية إلى نيرتتي، أتمنى أن يفكر أهل السودان، في الشمال كما في الوسط والجنوب والغرب والشرق، في تنظيم زيارات إلى نيرتتي وعموم جبل مرة. أتمنى أن يحدث ذلك حالما تنقشع الضائقة المعيشية الحالية، وتختفي جائحة كرونا.
من الممكن لهذه الزيارات أن تنظم إما بالطائرة إلى الفاشر، أو بالقطار إلى نيالا، ومنها بالباصات إلى نيرتتي من طريق نيالا كاس زالنجي، وهو طريق تعطيك انطباعاً بأنك قد خرجت تواً من الكرة الأرضية إلى ملكوت الجمال الآسر والطبيعة الخلابة والخضرة الغامرة.
بذلك أيضاً نقف على حجم التهميش الذي راح ضحيته إنسان هذا الجزء من البلاد. ويتجلى هذا التهميش كأوضح ما يتجلى في شح المدارس، كمًا وكيفًا، وانعدام المرافق الصحية وخلافه من سبل العيش الكديم. كما ستتيح لها مثل هذه الزيارات الوقوف على خيرات هذه المنطقة بوسعها أن تغذي السودان وتفيض على الدول من حوله. وفوق ذلك، فإن نيرتتي منتجع سياحي لا يقارن بغيره في العالم. وإذا ما أحسن تجهيزه واستقامت إدارته، فسرعان ما سيعود على البلاد بعائدات وفيرة، ليس أقلها توظيف الآلاف من الشباب العاطلين عن العمل والذين تكتظ بهم المدن وتضيق.
بمثل هذه الزيارات، أيضاً يدرك الحاكم أن دارفور ليست نائية كما ظن الكيزان وفعلوا ما فعلوا دون حياء أو خشية من أحد!