قيل إن المصالح قد افترسته. وقيل إنه من افترس ذاته معرضاً إياه للموت السياسي بالإقالة، باستدعائه أعداء متعددين التقوا على كراهيته، ونبذ تضييقه الخناق عليهم، وتبديد مصالح وأحلام ظلت تراودهم بامتلاك الاقتصاد الصحي.
أيا كانت الأسباب والمبررات التى سيقت لاتخاذ قرار إعفاء الدكتور أكرم علي التوم، فإن قراءة القرار في الإطار السايكولوجي لحركة الثورة في علاقتها بالجهاز التنفيذي، وعلاقة الجهاز التنفيذي بها تقود إلى غياب الحكمة المتوخاة في مركز اتخاذ القرار فيما جرى.
الدكتور اكرم وبعيداً عن أخطاء ارتكبها، أو لم يرتكبها، هو في حسابات الثوار والثائرات و الثورة أحد المعبرين عن قيمها العليا وغاياتها العميقة، بما خلقه من علاقة مقبولة ومرضية مع المجتمع الثوري العريض منذ لحظة تعيينه.
فقد شاهدناه وهو يرحل إلى الدمازين والرصيرص، ويكافح الأمراض هناك ملتحماً مع البسطاء صغاراً وكباراً دون هندام رسمي أو ربطة عنق، منسجماً معهم، وملبياً احتياجاتهم وطلباتهم الصحية المرفوعة أمامه. وكذلك لا يمكن النظر إلى موقفه من شركات الأدوية والكارتيلات المتنفذة، وما شكله من تهديد بائن لأصحاب المستشفيات، والعيادات الخاصة من تجفيف، وتقليص الظل إلا من داخل روح وأفكار الثورة نفسها- الثورة التي لم يات إليها من النافذة بل كان أحدٍ خدامها منذ سنوات طلبه للعلم.
نعم من الممكن والجائز أن ثمة أخطاء وقعت هنا وهناك، وربما تعلقت بعدم تجربة الرجل في العمل بروح الفريق الواحد على الطريقة السودانية ذات التكاليف العالية الباهظة من المجاملة، والمداهنة، والصبر على هنات البعض وهو ما يحرز نقاطاً إضافية للأسف في التقييم (وفق الحالة السودانية) للفرد والأفراد بالمنصب العام.
أما عن مواقفه الأخرى المتصلة بمكافحته جهات ما، وذوي مصالح مرئية فأعتقد أنه فعل ما أملاه عليه ضميره الثوري مما لا يجب كان أن يحسب عليه، وينقص من تقييم أدائه، بل يزيد من جودة تقييمه وإحسانه إخلاص العمل.
لقد كان من الممكن إسداء النصح له إن أخطأ ورفده بالملاحظات، والعمل على تصحيحه، و معالجة نقاط ضعفه لجهة كسب مشاركته التنفيذية وتصويبها بدلا عن التخلص منه، وقطع مساهمته التنفيذية المهمة المطلوبة.
إبعاده عن المنصب و التخلص منه، كما أشرت، سيكون له ما بعده، وعليه ما سيلي من ردود أفعال قد لا تساعد على ترميم المسار، ومعالجة الجراح بقدر ما ستعمقها؛ بسبب يشهد له به القاصي والداني كونه ابن الثورة بدرجة تضعه ربما ضمن أميز أعضاء الفريق الوزاري علاقة بها وبذلاً للعطاء لأجل تحقيق أهدافها .
يبقى أن التحليل لمسببات ما جرى سيؤدي إلى توافر كثير من المعايير السالبة في تقييم أداء التنفيذيين، كأنما علاقتهم بالثورة وروحها لا تسجل نقاطاً إضافية معتمدة لدى متخذي القرار أو أهمية نوعية لحركة التغيير.
لقد اطلعت على كثير من الكتابات و التعليقات ذات الصلة بالموضوع، وخرجت بملاحظة ان لا أحد قد أشار الى الصدمة النفسية التي واجهها وزير الصحة بقدوم الجائحة الصحية التي كشفت للحد الأقصى عن انهيار المنظومة الصحية بأكملها، والمسؤول عن وضعها المزري كل التاريخ التنفيذي، فأصبح الرجل، كما رأينا، مثل الذي يصارع الرياح وحده، و شاهدناه في عدد من التصريحات الاعلامية والرسائل من على منبر سونا وغيره يحذر ويناشد بكل شفافية بلغت حد ضرب المثل إقليمياً من بين كافة وزراء الصحة.
هذه الحقيقة تم أخذها على أنها عليه، بدلاً من وضعها كمضاف لأزمته التنفيذية الطارئة المصنوعة لأسباب خارجة عن إرادته. وعليه نسأل: هل كان من الممكن أن يحدث للرجل ما حدث إذا لم تقع الكارثة الصحية؟ هل كان من الجائز أن يحدث ما حدث لولا إدخاله يده في أمعاء عش الدبابير؟