التعديل الوزاري في السودان ضرورة ، وأعتقد بأننا في مسيس الحاجة حالياً الى جراحة ترفد دما ثوريًا في أوصال الحكومة مع أهمية الخبرة والرؤية، ليرتقي أداء الحكومة وسياساتها الداخلية والخارجية الى مستوى تطلعات الشعب ، الذي قدم شهداء وجرحى ومفقودين ،كي تنتصر ثورة ديسمبر ٢٠١٨ السلمية.
لكن هل جاء الإعلان عن التعديل الوزاري (٩ يوليو ٢٠٢٠) في توقيت مناسب، في ضوء تفاعلات سياسية واقتصادية واجتماعية تجري حاليا على الساحة السودانية،وهل يكتسب أبعادًا حيوية في غياب البرلمان ووحدة قوى الحرية والتغيير؟
الاعلان عن (استقالة وزراء )بناء على طلب رئيس الحكومة دكتور حمدوك أثارت رؤى متباينة على الساحة السودانية ، خصوصا في أوساط شبابية وغيرها .
ربما يبدو هذا التعديل طبيعيا لدى مواطنين ومراقبين ، لكنني أرى أن توقيت التعديل غير مناسب،كما أن الأجواء السياسية المؤدية لانجاح أهدافه غير متوافرة حاليا .
المؤكد أن الاسراع في اعلان التعديل الوزاري جاء تحت ضغط عنصر (الوقت) لتلبية وعد حمدوك ب(قرارات حاسمة) خلال أسبوعين وذلك في بيانه عشية مواكب الثلاثين من يونيو ٢٠٢٠، الهادرة ، التي رفعت مطالب محددة.
أعتقد بأن التعديل الذي جرى بموجبه قبول استقالة وزراء من دون اعلان الوزراء الجدد في اليوم نفسه كان يمكن ارجاؤه ليحمل معان أكبر، في ضوء تفاعلات الجهود المبذولة في سبيل التوصل الى اتفاق (سلام) ، وما أعلنته في هذا الشأن وساطة دولة جنوب السودان التي قالت إن ذلك سيتم خلال أيام ( بعد أسبوع).
ما جرى اعلانه بشأن تعديل وزاري -وهو غير مكتمل وناقص- أثار تساؤلات ومظاهر وبوادر انقسام في الرأي العام ،خصوصا في ما يتعلق بقبول استقالة وزير المالية دكتور ابراهيم البدوي و(اعفاء)وزير الصحة دكتور أكرم التوم.
لست بصدد تحليل أدوار هذين الوزيرين حاليا،لكنني أرصد في هذه السطور تفاعلات الحدث ،اذ تشهد أوساط الشعب انقساما واضحا وملموسا بشأن اقالة هذين الوزيرين .
هذا معناه أن خطوة التعديل الوزاري التي كان من المأمول أن تشيع ارتياحا في معظم أوساط الشعب -ولا أقول كلها- لأن هذا من المستحيلات – قد تسببت في اثارة غضب ملموس في أوساط قوى داعمة للثورة،أي أنه جاء خصما من رصيد رئيس الحكومة لا إضافة لشعبيته.
كي لا يبدو الأمر كأنه دفاع عن شخصين ،أقول في هذا السياق أن هناك مسؤولية تضامنية للحكومة ينبغي أن ينهض بها رئيس الحكومة ووزراؤه.
رغم أهمية بصمات أي وزير في ادارة وزارته وانجاح أهدافها،فان المسؤولية التضامنية تعني أن يتحمل رئيس الوزراء مسؤولية فشل أية سياسات ارتضاها في سياق ادارته للحكومة،ما يعني أنه يتحمل أيضا مسؤولية اخفاق أية سياسات ، كما يتحملها الوزراء في الوقت نفسه .
هذا يعني أن جوهر المسألة يكمن في مدى تبني الحكومة لسياسات متفق عليها ينفذها أي وزير بعدما يطرح رؤاه في مجلس الوزراء في اطار أولويات حكومة (الثورة)، ثم يحاسب على مدى نجاحه في تنفيذ أولويات الحكومة وبرنامجها .
حكومة الفترة الانتقالية تحتاج الى تحديد الأولويات، في اطار اعلان قوى الحرية والتغيير الذي يحتاج الى تطوير، وتحتاج أيضا الى تعميق نهج المكاشفة المستمرة مع الشعب،و الى (النبض الثوري)لأنها حكومة ثورة وليست حكومة منتخبة.
الجميع (رئيس الوزراء والوزراء ) قبلوا و ارتضوا تكليف (قوى الحرية والتغيير) ،وهي التي قادت الحراك الثوري، وفي صدارتها تجمع المهنيين .
ما يثير الاستغراب أن يفاجأ هذا القيادي أو ذلك في (قوى الحرية والتغيير) باعلان التغيير الحكومي عبر تلفزيون السودان ، ما يعني أن هناك غيابا للتنسيق مع قوى الحرية وهي (الحاضنة السياسية ) للحكومة.
هل يعني ذلك أن رئيس الحكومة يقرر في التعديل الوزاري وتوقيته بمعزل عن التشاور والتنسيق مع قوى الحرية والتغيير،وهو الذي كلفته هذه القوى السياسية والمهنية بتولي المنصب ، وكانت قدمت اليه أسماء مرشحين لأية وزارة ليختار منها وزيرا، أي فوضته ليختار فريقه ولم تفرض عليه أحدا ؟
اذا كان صحيحا ان قوى الحرية قررت أن تعقد اجتماعا في يوليو الحالي لترتيب أوضاعها، بالهيكلة ووضع الأولويات وتوسيع قاعدتها، لتشمل على سبيل المثال (لجان المقاومة) فلماذا الاسراع باعلان (تعديل وزاري ) ناقص الملامح ، ولم يتزامن مع اعلان سياسات جديدة أو محددة وباولويات واضحة تقنع الشعب بجدواه؟
يبدو أن التعهد (الضاغط ) ب(قرارات حاسمة خلال اسبوعين ) الذي أعلنه رئيس (حكومة الثورة )يقف وراء هذا التعديل المثير للتساؤلات ومظاهر البلبلة والانقسام في أوساط الرأي العام.
المؤكد أنه تعديل لن يصمد طويلا ، اذا جرى التوقيع على اتفاق سلام مع (الجبهة الثورية)
كخطوة أولى، على طريق سلام لن يكون شاملا اذا لم يشمل الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة القائد الأستاذ عبد العزيز الحلو وحركة تحرير السودان بقيادة القائد الأستاذ عبد الواحد محمد نور.
خلاصة الرأي،أرى أن أهم مصدر (يفرخ ) المشكلات في السودان حاليا يكمن في عدم تشكيل المجلس التشريعي الذي يقوم بمراقبة أداء الحكومة .
اذا جرى تشكيل مجلس تشريعي، فان رئيس الحكومة مطالب بتقديم بيان من وقت لآخر بشأن سياسات حكومته وقراراتها ، كما سيخضع الوزراء لرقابة ومساءلة البرلمان .
في غياب البرلمان لا يمكن أن تتوافر لأي تعديل وزاري أبعاده الاصلاحية الكبرى وليس في مقدور أي حكومة في زمن التحول الديمقراطي أن تقنع الشعب بأنها حكومة ثورة تضع الديمقراطية والشفافية في صدارة أهدافها وأولوياتها في غياب او تغييب دور البرلمان ،وفي هذه الحالة ستخضع قضايا الوطن لتقديرات شخصية لا مؤسسية .
الكرة أراها قابعة منذ فترة طويلة في ملعب (قوى الحرية والتغيير) التي تهمش أدوارها بتشتتها ومناكفاتها .
واذا استمرت أوضاعها الراهنة ستفقد قيادتها للفترة الانتقالية، وستبدو الحكومة من دون ظهر يحميها، ويقوي خطاها ،وستتعثر ، وحينها سيقول الشارع كلمته الحاسمة التي تضع قوى الحرية والحكومة أمام محكات وخيارات صعبة.
الشارع بشبابه الحيوي من الجنسين ونسائه ورجاله أكد في ٣٠ يونيو ٢٠٢٠ (رغم مخاطر كورونا) انه الحامي لثورته، ومطالبه واضحة، يتصدرها السلام والعدالة الانتقالية والعيش الكريم .
وهاهو اعتصام مدينة نيرتتي في منطقة جبل مرة الصامدة بدارفور ،المستمر منذ أيام ، يجيء عشية اعلان التعديل الوزاري ، وقد أرسل الاعتصام (السلمي) رسائل شعبية رائعة ومؤثرة من دارفور التي تعكس أحوالها بشاعة القمع والقتل الجماعي والانتهاكات الصارخة لحقوق الانسان خلال فترة النظام البائد ،كما هو الحال في منطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق .
في صدارة رسائل (نيرتتي) أن هناك اهمالا بشأن توفير الأمن والطمأنينه في زمن الثورة ،وأن السلمية هي سلاح المرحلة في السودان الجديد.
سارعوا بتحقيق السلام ، وتشكيل المجلس التشريعي وتعيين الولاة المدنيين ، وفي الوقت نفسه تشكيل حكومة تمثل قوى فاعلة ومسنودة من قوى الثورة قبل أن تهب عواصف غضب جديدة في شارع الثورة الحي بنبض بنات السودان وأبنائه .
وفقا للدروس المستفادة من تجربة الحكومة في الفترة السابقة فان أية دعوة لتشكيل حكومة جديدة
لا تجد دعما جماعيا من قوى الثورة، هي دعوة لتجريد الحكومة من سندها الجماهيري الثوري .
أي أنها دعوة للانتحار، واذا تم ذلك ستنهار الحكومة ، سريعا لأنها ستكون من دون ظهر يحميها ويصوب خطاها .
(حكومة الثورة ) في رأيي تستمد تميزها وحيويتها وقدرتها على استقطاب عقول وقلوب الملايين الذين صنعوا فجر الثورة الشعبية السلمية من توافر عنصري (الكفاءة والخبرة، والنبض الثوري) …
محمد المكي أحمد – لندن
١٠ يوليو ٢٠٢٠