بيان صحفى 19 يوليو 2020 الدكتور/ ابراهيم أحمد البدوي وزير المالية والتخطيط الاقتصادي السابق
“انَّا عَرَضْنا الأمانة علي السمَاوَاتِ وَالَْْأرْضِ وَالجِْبَالِ فأَبَيََْْن أَن يْحمِلنَها وَأَشْفَقْنَ منْهاَ وحمَلها الِْْإنسَانُ ۖاِنهُ كانَ ظَلوُمًا جهولا”) الْأحزاب 72.
- يأ تي هذا البيان كاستجابة لرغبة ملحة عبّر عنها الكثير من أبناء الوطن علي إختلاف مشاربهم وتوجاتهم السياسية والفكرية لمعرفة دواعي وملابسات مغادرتي حكومة الثورة الانتقالية وفي هذا الظرف بالذات، خاصة بعد نجاح مؤتمر الشركاء في الخامس والعشرين من يونيو واختتام مفاوضات البنّمج المتُابع من قبل منسوبي صندوق النقد الدولي) IMF Staff Monitored Program: SMP (والذي، باذن الله، سيشكل قناة العبور لْآفاق اعفاء ما يناهز 60 مليار دولْاراً من الديون الخارجية واعادة تأ هيل البلاد للاستفادة من منح التنية الدولية، حيث يمكن لبلادنا وقتها الشروع في انفاذ برنامجها الوطني للتنمية المستدامة ومكافحة الفقر وبناء السلام.
أرجو الافادة بأن هذا البيان لا يهدف لتسجيل موقف أو الغمز من قناة أي كان بالرغم من التلميحات بأن قبول الاستقالة مرتبطٌ بتقييم للأداء، ولا أدري المعايير التي استند اليها. وعلي كل لا مشاحة فيما ذهبوا إليه فكلنا شركاء في الوطن وفي نصرة هذه الثورة المجيدة وإن إختلفت رؤانّا واجتهاداتنا. - لقد تشرفت بالإنضمام للحكومة الإنتقالية كوزير لهذه الحقيبة الهامة وأنا صاحب مشروع اقتصادي عملت علي تطويره عن طريق الأبحاث الأكاديمية والسياسوية، إضافة الى خبرتي العملية خلال الثلاثين عاماً الماضية، حيث أعددت حوالي 26 ورقة عن الإقتصاد السوداني نُشرت في دوريات وكتب محكمة، إضافة الى أربع مساهمات لعامة القُرّاء والرأي العام كانت أولْها في العام 1994 وقُدمت في القاهرة للورشة الاقتصادية لقوى “التجمع الوطني الديموقراطي” المعارض آنذاك.
وكانت المساهمة الثانية بعنوان “البديل الوطنى: البنَّمج الإقتصادي” والتي استعرضتها في مؤتمر قوى المعارضة السودانية في أغسطس 2011م بدار حزب الأمة القومي بأم درمان، بينما تعرضت الورقة الثالثة في فباير 2018م بالتحليل النقدى لنظام “سعر الصرف المدار” وأخيراً جاءت الورقة الأخيرة الموسومة) “حرية سلام وعدالة والثورة خيار الشعب” كمرجعية لمنهج الثورة الاقتصادى (في يناير 2019م لتطرح برنامجاً اقتصاديًا نهضوياً رأيت أنه يلبي تطلعات ثورة ديسمبر المجيدة، مستلهماً شعار الثورة الأبرز “حرية سلام وعدالة”. - لقد خلصُت الى أن علينا أن نتوفر علي وصفة سودانية تستهدي بمنهج علمى مدروس، وتستصحب عصارة التجارب الدولية الناجحة الملائمة للأوضاع السائدة في الإقتصاد السوداني، فضلاً عن أن برنامجاً كهذا يجب أن يحظى بدعم كفة أو معظم القوى الاجتماعية والسياسية بالبلاد وأيضاً بتعاون مجتمع التنمية الإقليمي والدولي. وفي هذا السياق جاء اطار “خطة نهضة السودان الاقتصادية: 2020-2030” والذي تحدثت عنه كثيراً في بدايات عهد الحكومة وحاولت الترويج له بكيانات اعلامية ومهنية وأكاديمية مهتمه بالإقتصاد والذي تمخضت عنه ثلاثة محاور أساسية علي صعيد البرامج السياسوية:
أولاً: معالجة أزمة الاقتصاد السوداني لابد أن تبدأ بإصلاح تشوهات الاقتصاد الكلي المترتبة علي الدعم السلعي وتعدد أسعار الصرف وتسيد الأنشطة الطفيلية المرتبطة بالسوق الموازي للنقد الأجنبي) بالمناسبة لقد درج التقليد في الأدبيات الأكاديمية علي استخدام تعبير “الموازى” بدل عن “الأسود” ليس تلطفاً ولكن لأنه يحمل دلالات عنصرية.
ثانياً: بذات الوقت من الأهمية بمكان تطوير رؤية للاقتصاد السياسي تستند الى استنتاج مفاده أن إصلاح الإقتصاد الكلي لابد أن يأتي في إطار مشروع متين للعدالة الإجتماعية والانتاج والإصلاح المؤسسى: ترشيد دعم المحروقات يأ تي في إطار مشروع للانتقال من دعم السلع لدعم المواطن مباشرة: الهيكل الراتبي الجديد، هيئة التحول الرقمى ومشروع دعم الأسر.
اصلاح نظام سعر الصرف وصولا لتوحيده، وهو في واقع الأمر أكبر رافع للتحول من الإقتصاد الإستهلاكي والطفيلي الى الإقتصاد المنتج.
كفاءة ادارة الإقتصاد لا تتحقق فقط بالحوكمة الرشيدة والإصلاح المؤسسى، بل لابد أيضاً أن تستند الى تفويض كامل للصلاحيات من طرف مستويات السلطة الدستورية والتنفيذية العليا ليتسنى لها التركيز علَ الاشراف العام وبناء الخطط والرؤى الإستراتيجية.
ثالثاً: البداية من حيث الرؤية والبرامج لابد أن تكون سودانية خالصة ولكن للخروج من حفرة عمقها ما يناهز 60 ملياراً من الدولارات لابد من البحث عن دعم الشركاء وهذا ما حققناه في مبادرات أصدقاء السودان والتي تُوِجت بمؤتمر الشركاء واتفاقية ال SMP. - لا شك أننا في وزراة المالية والحكومة بصفة عامة لم يحالفنا التوفيق في تحقيق الكثير من الأهداف المرجوة في اطار زمني قصير،رولكن بلا شك هناك انجازات كبيرة تحققت بفضل وضوح الرؤيا وقوة المنهج، تحدث عنها باسهاب الكثير من الكُتاب خلال ا لأسبوعين الماضيين، لا يتسع المجال للخوض في تفاصيلها في هذا السياق.
- لعل الجانب ذو العلاقة المباشرة بهذا البيان هو أنني أيضاً أدرك جيداً أهمية التفويض الكافي لوزارة المالية والتخطيط الإقتصادي لتمكينها من تنسيق وقيادة عملية الاصلاح الاقتصادي بعد السنوات المتطاولة من سوء ادارة الإقتصاد والتجريف الممنهج لولاية وزارة المالية علب الموارد والمؤسسات الإيرادية العامة. وهناك تجارب مستفادة في هذا الخصوص من دول شرق أوربا وأمريكا اللاتينية في عقد التسعينات، حيث أُسندت صلاحيات استثنائية لوزراء المالية لتمكينهم من تنسيق وقيادة الاصلاحات الاقتصادية العميقة التي كانت تحتاجتها تلك الدول. وفي هذا السياق فقد تفاكرت مع ا لاخ رئيس الوزراء عدة مرات خلال الأشهر الماضية، بدأت أولْها في أغسطس من العام الماضي، عندما أخبرني بعزمه تكليفى حقيبة المالية. وكنت وما زلت أعتقد أن الملفات المتعددة والحساسة التي يشرف عليها السيد الرئيس تجعل من الأهمية بمكان تفويض بعض الصلاحيات الهامة للوزراء الذين يتولون قيادة القطاعات الوزارية، كالقطاع الاقتصادى علي وجه الخصوص. وفيما يلي هذا القطاع فهناك جزراً معزولة من الشركات والهيئات والصناديق في بعض الوزارات محمية بتشريعات تمكنها من الإستمرار في تجنيب الإيرادات وصرفها دون اشراف وزارة المالية ما أدى الى عدم تمكننا من ادارة السيولة وتوظيفها حسب أولويات وحاجات الاقتصاد السودانى.
- كنت أثير القضايا الْآنفة الذكر كأفكار وهواجس في اطار التشاور مع ا لأخ الرئيس – الذي تجمعني به علاقة شخصية ومهنية لما يربو علي ربع قرن من الزمان – كان آخر اللقاءات في اجتماع يوم الخميس، الموافق الثاني من يوليو والذي تم بناءً علي طلبى بالنظر لإحساسي بأن ا لْمرقد أصبح أكثر الحاحاً بعد اتفاق الSMP. لقد كنت أكثر وضوحاً في هذا الاجتماع الأخير، حيث طلبت من الأخ الرئيس أن يجدد مساحة وطبيعة الملفات الاقتصادية التي يرى أن تكون تحت اشرافه المباشر وعن طبيعة المهام التي سيطَلِع بها مستشاروه الإقتصاديون وذلك بغرض تعزيز التكامل وتفادى تضارب الصلاحيات، بينما حاولت أيضاً اقناعه بضرورة منحى، كوزير مالية، صلاحيات تنسيقية كافية لكي أقود عملية انفاذ برامج ال SMP المتفق عليها خلال الستة أشهر القادمة. هذا وقد أتت هذه المقتراحات في ظل تباينات قد حدثت بيننا في بعض القضايا الهامة، حيث كنت أرى أن رأىِ الفني المتخصص لم يُحظى بالإحترام الذي يستحق. وعليه رأيت أن علي السعى لتعزيز الإنسجام وتفادي خلافات كبيرة في وجهات النظر في المستقبل، خاصة وأن الفترة القادمة يفُترض أن تشهد قرارا ت صعبة من المأ مول أن تفُضى الى تحولات اقتصادية عميقة. أيضاً قد عبرت للأخ الرئيس باننى علي استعداد، اذا لزم الأمر، لأفسح المجال له لإختيار من يراه أكثر توافقاً مع رؤيته ومنهجه لإدارة الإقتصاد بينما أشرت بأن لي خيارات أخرى متاحة للمساهمة في العمل العام. وفي ختام الاجتماع شكرني علي صراحتي ووضوح المقترحات التي طرحتها ووعدني بالتفكير فيها وافادتي، وأتفقنا أيضاً علي عرض مسودة SMP والموانزة المعدلة الناجمة عنه، اضافة الى ورقة تسعير المحروقات علي مجلس الوزراء لْجازتها خلال الأسبوع التالى.
- ولكن قبل مواصلة الحديث بشأن ما حدث في الأسبوع التالي، أتوقف قليلاً عند برنَّمج ال SMP ومدى أهميته لمستقبل البلاد الإقتصادي والسياسي وعلاقته بالتفويض الذي تحدثت عنه. هذا البرنامج يأتي كمعب وحيد لتحقيق التنمية القومية الشاملة واحداث التحولات المنشودة، حيث نصت الوثيقة الدستورية علي” معالجة الأزمة الاقتصادية بايقاف التدهور الاقتصادي والعمل علي ارساء أسس التنمية المستدامة وذلك بتطبيق برنامج اقتصادي واجتماعي ومالي وانساني لمواجهة التحديات الراهنة”) الوثيقة الدستورية، الاولوية رقم 2 (وفي هذا السياق يمثل هذا البرنامج حزمة متكاملة من الاصلاحات المؤسسية وسياسات الاقتصاد الكلي والتي تم التفاوض حولها علي مدى أسبوعين، حيث تطابقت معظم عناصر هذا البرنامج مع أولوياتنا الوطنية التي تم معالجتها في اطار قرارات لجنة الطوارئ الاقتصادية العليا. وبافتراض أن ازالة اسم السودان من قائمة الدول الراعية للارهاب أصبحت قريبة المنال، فان تنفيذ هذا البرنامج سينقل البلاد الى آفاق غير مسبوقة تنفض عنَا اصر تركة الانقاذ الاقتصادية الكارثية في خلال ستة الى ثمانية شهور فقط، حيث يتُوقع: الانضمام لمبادرة الدول قليلة الدخل، المثقلة بالديون HIPC، لْعفاء ديون السودان البالغة 56 مليار دولْر والتي يتوقع أن تُُفض الى أقل من 15 مليار.
تسديد متأخرات الديون لمنظمات التمويل الدولية واعادة الانضمام للجمعية الدولية للتنمية IDA وتقديم منحة سنوية بحوالى مليار دولار كدعم مباشر للموازنة.
تدفق الاستثمارات المؤسسية علي سبيل المثال من قبل مؤسسة التمويل الدولية بالبنك الدولي وصندوق التنية الافريقي ببنك التنمية الإفريقي التي عادة ما توفر التمويل لمشاريع التنية الإستراتيجبة وبذات الوقت تمكن الدول من استقطاب الإستثمار الخاص. - في الأسبوع التالي لم أسمع شيئاً عما تم الإتفاق عليه في اجتماع الخميس، مما دفعني في محادثة هاتفية مع السيد الرئيس ظهر الثلاثاء، الموافق السابع من يوليو، بتذكيره باتفاقنا بشأن إجازة تفاهمات برنّامج SMP ومواصلة الحوار حول القضايا الأخرى التي أثرتها معه. وعدنى الأخ الرئيس بدعوة المجلس بالأربعاء ولكن لم يحدث ذلك.
الذي وردنى صباح الأربعاء شئٌ آخر يتعلق بخبر موثوق بأن هناك ترتيبات كانت تجرى وراء الكواليس وبتكتم شديد للتفاهم مع شخص من داخل الوزارة وعلي دراية بمفاوضات SMP ليصبح وزيراً مكلفاً بديلاً عني عندما يأ تي الوقت المعلوم.
بالطبع لم يزعجني هذا الأمر لأنني كنت قد قرأت ماذا يريد الرئيس من حيثيات “عدم الفعل” الذي اتسم به موقفه وبناء عليه حزمت أمري بأنني لابد أن أغادر وأصِر علي ذلك. لكن الذي أحزنني أنني كنت أقارب هذه القضايا الهامة بصراحة وشفافية ولكن للسف تم التعامل معي بأسلوب آخر. - لهذا عندما انعقد الإجتماع الطارئ يوم الخميس، الموافق التاسع من يوليو، رحبتُ مع زملائي بفكرة الإستقالات الجماعية التي طرحها الرئيس، خاصة وأنني كنت قد تقدمت بمقترح في الموقع) غير الرسمي (الخاص بأ عضاء الحكومة في السابع والعشرين من يونيو، عبرت فيه بأنه” قد حان وقت المواجهة) كنت أقصد المصارحة (مع الشعب وايضاً وقت القرارات الصعبة. انَّ رأي الشخصي اننا كوزراء يجب أن ننظر في فكرة تقديم استقالات جماعية للسيد رئيس الوزراء وإتاحة الفرصة له بدون أي حرج بالتشاور مع الحاضن السياسى) او الحواضن السياسية اذا توخينا الدقة (واختيار من يراه مناسباً للمرحلة القادمة من داخل وخارج الوزارة الحالية.”
بعد تقديم الإستقالات اجتمع السيد الرئيس مع الوزراء كلٌ علي حده وعندما أتى دوري كنت علي بينة من أمري تماماً وقررت أن يكون اللقاء ودياً وسلساً وذلك لأنني لم أكن أرغب في الحديث عما جرى من خلفي فذلك الظرف لعمري لا يحتمل التلاوم وقررت أن أتغابى عما حدث تأسياً بقول أبى تمام:
ليَسَ الغبَيُّ بِسَيد في قوَمِهِ … لكَِن سَ يِدُ قوَمِهِ المتُغَابي
خاتمة: - لقد كتبت ما كتبت وأنا مُثقَل القلب وكلى أملٌ بأن يُنظر الى افادتي أعلاه كأحد الدروس المستفادة لمستقبل الأيام وأن نمضي في شأننا، حكومة وشعباً، للتفكير في المستقبل، فأنا وغيري من الأخوة الوزراء الذين ترجلوا ستتُاح لنا آفاقاً رحبة لتقديم مانستطيع لبلادنا من مواقع أخرى.
أرجو في الختام أن أتقدم بالشكر والتقدير لقيادة قوى الحرية والتقدير وتجمع المهنيين والأخ رئيس الوزراء علي تشريفى بالعمل في حكومة الثورة خلال الفترة السابقة، سائلاً المولى العزيز القدير له وحكومته الموقرة التوفيق والسداد.
والله من وراء القصد.