نشرت صحف 20-7-2020 دوافع استقالة وزير المالية، الدكتور البدوي ودواعي مغادرته الوزارة. ويستنتج من التصريح أن الأداء السياسي للفترة الانتقالية يتردى سريعًا إلى مستوى سياسي يلامس القاع أو ما وراء الحضيض، وهذا ما جعل المغادرة الخيار الوحيد لأمثال البدوي، ولكنها مغادرة للبحث عن ملامح الثورة في مظانها الأصلية، وبين صفوف أهلها. فثورة ديسمبر التي أشاد بها العالم وأدهشته بسلميتها، جاءت لتبقى نقية.
وينبغي أن تظل كما في أمل وعمل ومخيلة الدكتور البدوي، كما في وجداننا العام، تظل مرجعية أخلاقية تمنح (الآيزو) في الأخلاق السياسية، وفي اعتماد معايير التعامل بين البشر.
وبصفتي سودانياً عادياً، تاملت في عبارات تصريح البدوي: “هناك جزر معزولة من الشركات والهيئات والصناديق في بعض الوزارات محمية بتشريعات تمكنها من الاستمرار في تجنيب الإيرادات، وصرفها دون اشراف وزارة المالية، ما أدى الى عدم تمكننا من إدارة السيولة، وتوظيفها حسب أولويات وحاجات الاقتصاد السوداني”.
هذه العباره برزت من بينها كلمة (تجنيب) فهي المفتاح لمعرفة في أي محطة تقف الثورة. فمتى سمعت التجنيب استنتجت الفساد. وبالتالي، فإن تصالح البدوي معها ليس وارداً، فلطالما جسد البدوي لكثيرين أخلاق الثورة، ونقاءها وصفاءها وظل (نوارتها). ورد فعله هذا أكد الأمل في معدنه فهناك من يتصالح مع نفسه. لا عجب ظللت كلما أتأمل في انفلات اللغة، وتردي السلوك السياسي، وتعميم الكراهية، وتسلل القنوط إلى النفوس، أتطلع إلى أمثال البدوي فهو بالنسبة إلى أمثالي مدرسة في المهنية والتهذيب والعلم والوطنية ونظافة اليد والثبات على الموقف، فضلاً عن التصالح مع الذات.
لم يسع الدكتور البدوي لأي موقع إلا بتأهيله ولم يتول أي مسؤولية فيها (لو) أو (لولوة) ولم يسع في حياته للتواطؤ مع الكرسي مقابل التنازل عن مبدأ. ولهذا عندما يغادر لا يلجأ لأي تمثيل مسرحي أو عرض ميلودرامي يسوق به نفسه. وإنما يبرئ ذمته ويترك للرأي تقيم أعماله وسعيه واجتهاده. وقد تابعنا أداء البدوي طوال الشهور التسعة الماضية ولا شك أنه أداء يدافع عن صاحبه. لقد اجتهد بعيداً عن إعلام أضحى مكاناً لعارضي الأزياء. وكان عمله ترجمة لمواقفه المعلومة، وترجمة لمعايير أخلاقية آمن بها.
البدوي ظل ضمانة أخلاقية للثورة من أي عمل يسيء إليها. ولهذا انسحابه خسارة كبرى، ولكن أحياناً الصمت يجعل المرء شريكاً بالتواطؤ في ممارسات تصلح أن توصف بأنها انحطاط سياسي. لهذا نظر البدوي للتاريخ وراهن على وعي الشعب. وسيحفظ التاريخ للبدوي موقفه هذا. فقد ترفع دائمًاً عن نشر الفرقة وتعميم أساليب الخسة والدس وممارسة التآمر والمساومات الرخيصة. وظل يعالج الصغائر بمغالبة المشاعر و”بالتغابي”، لعله ينجز شيئاً من الوعد وشيئاً من تطلع الثوار، ولكن استحال عليه قبول (التجنيب) والتآمر.
نذكر للبدوي وضعه لخطة علمية أقنعت المجتمع الدولي. وعالجت مشكلة (السيولة) التي أرهقت الشعب السوداني. وعالجت مشكلة الأجور المتدنية التي حطت من كرامة الموظف العام. فالأجر الضعيف يأتي بموظف ضعيف المهارات وضعيف المناعة في مقاومة الفساد.
ولهذا كانت فلسلفة رفع الأجور ذات مضامين تتسع لمفهوم توزيع الثروة الوطنية. زاد برنامج البدوي الفقراء كيل بعير بابتداع آليه الدعم الأسري النقدي المباشر. آليه اجتهد في توفير وسائل تقنية ورقمية لتنفيذها. وخطط لبرنامج يشمل ثمانين في المائة من الأسر السودانية. ما جعل لسان حال البسطاء لأول مرة يقول بأن لهم حكومة توفر غطاءً اجتماعيًا. وقامت هذه البرامج بموارد حقيقية ضمن توفيرها المجتمع الدولي للسودان.
ونذكر للبرنامج استصحابه شعارات الثورة في جوانبها الثلاثة: الحرية والسلام والعدالة. ما جعل استجابة المجتمع الدولي غير مسبوقة على نحو ما تابعنا في مؤتمر شركاء السودان. لقد دعم المجتمع الدولي البرنامج في محاوره المختلفه لأنه مقنع. والتزم بدعم السلام وتمويل مشاريع الشباب ودعم مبادراتهم الفردية، وبإعفاء ديون السودان.
وهذا الدعم الدولي سيصب في إصلاح الخلل في ميزان المدفوعات وأداء الاقتصاد الكلي واضطراب ضربات قلب الجنيه السوداني. ولم يتجاوز برنامج البدوي مخاطبة أس المرض، فجوة العرض والطلب. فقد وضع لها ترياقا تمثل في معالجة أسباب تراجع الإنتاج وضعف إنتاجية الفرد وتفعيل أدوات اقتصادية مجربة للنهوض بإنتاج المشاريع الكبرى.
وعمم فكرة السعر التشجيعي لمنتجات المزارعين القطاع التقليدي. وسعى إلى تكوين بورصة للذهب بحيث تشتري إنتاج (الدهابة)، وإنتاج شركات الذهب الكبرى على حد سواء وبالسعر العالمي، وهذا ما حدّ من عمليات التهريب. وطرح برنامجاً طموحاً لتطوير وتصويب توجهات الاقتصاد الوطني من حيث تطوير جودة الصادرات وتعزيز تنافسيتها وتشجيع المصدرين والحفاظ على الأسواق التقليدية للمنتجات السودانية، مع سعي إلى إيجاد أسواق جديدة لمنتجات السودان، ومنها إعلان الاتحاد الأوربي الوضعية التفضيلية للمنتج السوداني.
وهكذا وضع البدوي الاقتصاد الوطني في سكته الصحيحة.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه ليس عما نجح فيه، وإنما أيهما الأفضل للثورة انحطاط الممارسة السياسية إلى درك ما ينقل، وبالتالي هزيمة الثورة ومصادرتها أم الخروج والتنبيه إلى مآلات السفينة؟ وأيا تكن الإجابة، وفي كل حال، فإن استقالة إبراهيم البدوي أشارت إلى سحب ثقة قطاع كبير من الناس من الحكومة الانتقالية، مثلما نبهت إلى مستقبل مزعج يمكن تلافيه قبل أن يطال الثورة.
ومع ذلك، يبقى الأمل في انتصار الخير على الأشرار. فقد فتح البدوي كوة للأمل، (قد كتبت ما كتبت وأنا ُمثقَل القلب وكلي أمل بأن يُنظر الى افادتي أعلاه كأحد الدروس المستفادة لمستقبل الأيام وأن نمضي في شأننا، حكومة وشعبًا، للتفكير في المستقبل، فأنَا وغيري من الاخوة الوزراء الذين ترجلوا ستُتاح لنا آفاق رحبة لتقديم ما نستطيع لبلادنا من مواقع أخرى.) فهذه العبارة تضيء النور بدلا من ترك الثورة للعتمة والتآمر والوضاعة. وهو ما سيدفع حتماً للتصويب ولمنع المزيد من التردي في مهاوي الشللية والتدحرج إلى مزالق إعادة إنتاج الدولة الفاسد.