ديكتاتورية (البشير) كانت أبشع من ديكتاتورية (القذافي)
الأنظمةالشمولية تتعمد( تقزيم) الشعب حتى لا يفكر في التغيير
البشير من شدة خوفه من الشعب كان (يرقص) والبلاد تواجه قمة المصائب
الديكتاتوريات تؤثر في سلوك المجتمعات، والدليل أن (السلوك الكيزاني) مايزال موجوداً
حوار: الزبير سعيد
تحتفظ ذاكرة الشعوب ببعض العبارات التي يطلقها الطغاة من الحكام خاصة تلك التي يستخدمونها في وصف شعوبهم التي تكون قد ثارت ضدهم، وأزالتهم عن سدة الحكم. مازال الناس يتذكرون عبارات العقيد معمر القذافي الذي وصف شعبه يومها (بالجرذان )، وهو ذات الوصف الذي استعان به المخلوع عمر البشير (كل فار سيدخل جحرة)، ولكن خطابات البشير كانت حاشدة بالعبارات التي تستعين بالحيوان، وذلك عندما تحدى أمام الجماهير أميركا والمحكمة الجنائية قائلا: (كديسة ما بنسلما)…
لتفسير هذه النزعة الحيوانية في خطابات قادة الأنظمة الديكتاورية، وحالة الخوف من ثورة تلك الشعوب، التي تقابل بالقمع والإذلال حتى يتوقعوا ولا يفكروا في السعي إلى التغيير، التقينا الدكتورة رندا بشير الحسن اختصاصية علم النفس العلاجي، ومديرة مركز الخرطوم للطب النفسي، والناشطة ذات الحضور المؤثر في كل ما يتعلق بمجال تخصصها واهتمامها الإنساني.
لماذا تحتقر الأنظمة الشمولية شعوبها؟ تتعمد الأنظمة الديكتاتورية تقزيم مواطنيها بالرغم من أنه محور البناء ونهضة الدول.. إن إهانة الشعوب واذلالها هو سلوك مقصود لأنه يساعد على جعل تلك الشعوب تشعر بالدونية، وتلجأ إلى التقوقع وعدم الثقة في الذات، وهذا بدوره يؤدي إلى ضعف الوعي بالحقوق والقضايا المهمة، كما يؤدي إلى تراجع حركة الفكر والوعى الجمعي.
هل لأن الوعي يشكل بعبعا لتلك الأنظمة؟ اعتماد أسلوب الإهانة مضر جداً حتى بالنسبة لإلى الأسرة؛ لأن الابن الذي يتعرض للأهانة كأسلوب عقاب يكون منعزلاً وانطوائياً. أما بالنسبة إلى الأنظمة الديكتاتورية، فإن الأمر بلا شك ناجم عن خوف؛ لأن الارتقاء الفكري والوعي يقود الشعوب إلى التفكير في التغيير، وعدم التردد في التعبير عن رفضهم سياسات تلك الأنظمة المستبدة. وهذا الاتجاه من التفكير الجماهيري مرفوض من تلك الأنظمة لأنه مكلف جداً.
هل رفض الجماهير لذلك الواقع المرير جعلهم يتخلصون من خوفهم ويخرجون للشوارع؟ خوف النظام من الجماهير كان أكبر ، بل وصل النظام قمة الخوف بعد أن شعر بأن الجميع ضد استمراريته وان الوضع الاقتصادي قد وصل درجة يصعب احتمالها.
البشير في خطاب جماهيري شهير تحدى اميركا والجنائية وقال (كديسة ) ما حنسلمها؟ في تلك اللحظة كان البشير يعبر عن قمة خوفه؛ لأنه يعرف جيداً ما هي أميركا، وهنا فقد أسقط خوفه على حيوان صغير لا حول له ولا قوة، ونخلص إلى أن قمة (الخوف) تكشف قمة (الضعف).
ما الفرق بين القذافي والبشير؟ القذافي ديكتاتور حقيقي، أتقن سياسة إذلال شعبه، وعندما وصفهم (بالجرذان)، فقد كان يعبر عن خوف من مواجهتهم. أما البشير فإنه ممارس لسلوك ديكتاتوري قائم على خوف، جعله يلجأ إلى حيل دفاعية، وينتهج أسلوب الإسقاط حتى يكون في وضع وشكل مقبول.
ما الفرق بين الديكتاتور الحقيقي والديكتاتور الممارس؟ الديكتاور الممارس قد يكون أبشع من الديكتاتور الاصلي؛ لأنه ينطلق من ضغائن شخصية، وتركيبته النفسية تكون معقدة جداً.
ولكن البشير ظل يؤكد أنهم لا يخشون من أي شيء؟ البشير كان خائفاً من الشعب، بل وصل مرحلة (الرعب)، والدليل على ذلك أنه كان (يرقص) والبلاد تواجه قمة المصائب، وذلك أسلوب يعكس إنكاره الحقائق، والاستهزاء بها بدلاً من مواجهتها.
هل تعمد نظام البشير محاصرة الشعب بهموم ومطلوبات الحياة اليومية؟ الأنظمة القمعية تشغل الشعوب بمطلوبات الحياة الأساسية، وذلك حتى لا يجدوا فرصة للتفكير، ويحدث لهم تطلع سياسي وتفكير في واقع أفضل. تعمد نظام البشير حصر الناس فيما يعرف بالتفكير الحيواني، وهو جعل الناس يركزون في احتياجاتهم التي تتمثل في (الأكل والشرب والمواصلات). لقد ظل الشعب السوداني لمدة (30) سنة يعيش في هذه الوضعية البدائية، لذلك لم يحدث تطور فكري . وكلما حاول الشعب ارتقاء سلم التطور يتم قهره وإذلاله حتى لا يكون قادراً على مواجهة الظلم والاستبداد .
ما أثر ذلك على الطاقة الإيجابية للشعب؟ الأثر كبير جداً، كما أن سياسة إفقار الشعب أضعفت لياقة الناس البدنية، وأصابتهم بالرهق، وذلك لأن النظام البائد كان يعلم أن التغيير يحتاج إلى الطاقة (مادية ومعنوية). كما أن الإحباطات على جميع المستويات كانت سريعة ومتوالية حتى أصبح شكلنا وملمحنا العام واحداً عنوانه ذلك (الوجه العابس)، ومفرداتنا التي نستخدمها في التعبير عن أحوالنا كانت أيضا واحدة. ولقد وصل الجميع إلى درجة من الاكتئاب جعلتنا في حالة عجز تام عن العمل، والتركيز في الحديث النظري فقط.
رغم أن الأوضاع الاقتصادية أصبحت أكثر تعقيداً، ولكن الشعب يجتهد في التكيف معها ؟ هذه الحالة تسمى بالرضا النفسي ؛لأن الشعب انتقل إلى مرحلة الارتقاء لذلك، ورغم صعوبة الأوضاع، إلا أن نجاح الثورة أنعش فينا كثيراً من قيمنا وموروثاتنا التي كادت أن تندثر بفعل سياسات النظام البائد. والشعب الذي انتصر على نظام البشير أصبح إحساسه بالرغبة في التغيير كبيراً، وتجاوز الاحتياجات البدائية التي كان نظام البشير حريصاً على أن يسجن الناس فيها.
لماذا اعتمد نظام البشير على سياسة قهر الشعب؟ كل الأنظمة الديكتاتورية تنتهج سياسة القمع والقهر؛ لأنها تجعل الشخصية لا تنمو بصورة سوية، بل تكون شخصية مترددة لا تتخذ القرارات السليمة، ولا تملك القدرة على المواجهة. وأخطر شيء أن هذه الأنظمة تؤثر في سلوك المجتمعات، والدليل على ذلك أن (السلوك الكيزاني) مايزال موجوداً بالرغم من إبعادهم عن الحكم.
نريد مثالاً لذلك؟ أعتقد أن شبابنا الذين أنجزوا أعظم ثورة في تاريخ الإنسانية لابد أن يتخلصوا من حالة (الرفض بدون تفكير)، ونحن نجد بعض العذر لهؤلاء الشباب؛ لأن هذه الثورة العظيمة افتقدت (القائد)، كما أن هؤلاء الشباب ولدوا ونشؤوا في عهد دولة الكيزان، ولكن لابد أن يتخلصوا من حالة رفضهم بعض الاشياء قبل التفكير فيها بعمق وتدبر . كما يجب أن تقوم مؤسسات الدولة وعلى رأسها وزارة الثقافة والإعلام بدور كبير تجاه شباب الثورة الذين يجب أن نوضح لهم (شنو مدنية وشنو ديمقراطية)، وذلك ليس تقليلاً، ولكن لأن بعضهم أعمارهم صغيرة، وتجاربهم قليلة، والوضع الذي عاشوا فيه طوال حقبة النظام البائد لم يمنحهم الحرية والفرصة في التفكير بصوت مسموع. والأهم من كل ذلك لأن هؤلاء الشباب قادوا ثورة عظيمة، وقدموا مجموعة كبيرة من الشهداء الأبرار، وواجهوا أبشع أنواع القمع والقهر والتعذيب حتى حققوا الانتصار، ولا ننسى أن هؤلاء الشباب هم مستقبل هذا الوطن.