اختلف العلماء كثيرا في تحديد أصل الإنسان ، وأين ومتى نشأ لأول مرة .. ووصل ببعضهم الظن أن البشر مرحلة من مراحل تطور القردة .. ومنهم من ذكر أن نشأتهم كانت في أواسط آسيا.. واختلفوا في المكان الذي نزل فيه أبونا آدم .. كما اختلفوا في ( الجودي ) الذي رسى فيه سفينة نوح عليه السلام بعد الطوفان بمن تبقى من البشر .. {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ } [هود: 44] ففي التحرير والتنوير أنه: اسم جبل بين العراق وأرمينا يقال له اليوم (أَرَارَاطُ) ، وقال ابن كثير : وقال بعضهم: هو الطور ، وفي الكشاف أنه جبل بالموصل .. ويعجبني قول الشعراوي في تفسيره : (ويقال: إن جبل الجودي يوجد في الموصل ويقال: إنه ناحية الكوفة، وإن كان هذا القول مجرد علم لا ينفع، والجهل به لا يضر) .
ومن حقي أن أذهب إلى أن البحث في الأصول الموغلة في أعماق التاريخ يبعدنا عن الحق ، ويوردنا مهالك الظن .. ذلك أننا لا نملك من الوثائق عن ذلك التاريخ السحيق ومعرفة ما تم فيه ، فنضطر إلى التوجه إلى خيالنا وافتراضاتنا ، أو إلى ما بثته الإسرائيليات في ثقافتنا وسربته في مصادر معرفتنا .
ولا تظنن أن اطلاعنا إلى آثار الأولين يمكن أن أن يفيدنا بشيء مؤكد ؛ فالتاريخ غامض أشد الغموض ، مملوء بالأساطير والأقوال المتضاربة ؛ لأن الناس في ذلك العهد لم يدونوا تاريخهم ، وإنما كانوا يتناقلون ذلك شفاهاً من طريق الرواية .وما اطلعنا عليه من الكتابات أقرب إلى الطلاسم في غالبه ، أو هي مما لم نفك خطه أو نتف من أخبار الملوك خاصة . أما أصدق ما وصل إلينا من أخبار الأولين فهي تلك الأخبار التي وردت في القرآن الكريم كأخبار عاد وثمود وسيل العرم . جاء في القرآن الكريم عما كانت عليه هذه الممالك في تلك المرحلة من ترف ونعيم ، وما كانوا يتمتعون به من قوة ومنعة . فوصف مملكة (سبأ) بالحياة الزراعية المستقرة ؛ وذكر أن من أهم أسباب عظمتها عملها في التجارة ؛ فاحتفروا الترع وبنوا السدود وأنشأوا القصور .
ثم ضعف شأنها بعد انهيار سد مأرب ، وما أصاب البلاد من خراب عظيم ، كما بلغت ( عاد) من القوة واتخاذ المصانع وفن العمارة مبلغا عظيما ، ولم تكن ( ثمود ) أقل من ( عاد ) قوة وعتاداً ؛ فقد جابوا الصخر بالوادي ، واتخذوا مما يقطعونه من الصخور بيوتاً فارهين ( أي في مهارة وحذق ) . وهذه الآثار وغيرها – في غير القرآن الكريم – لا تبين لنا علما موثوقا به ؛ فما استخلصناه من هذه الآثار مجرد اجتهاد ، وما جاء في القرآن للعظة والاعتبار بما حققته هذه الأمم ، وانهيار حضاراتهم لما أعرضوا عن ذكر الله تعالى .. ويبقى السؤال ما تفاصيل الحياة في هذه الممالك . ما أسماء العائلات وتفاصيل الصلات بينها ، ما كان طعامهم ، ألعابهم ، أفراحههم ، أتراحههم ، عاداتهم وتقاليدهم .. وغيرها مما يقدم لنا علماً بحياتهم ..
أما ما تم تسجيله على الآثار فيتعلق كما ذكرنا بانتصارات الملوك ونحوهم .. وعلى الرغم من وجود الكتابة في حقب معينة كما يؤكده ما وجدناه في الأهرامات ومقابر الملوك والمسلات والصحف الأولى ، إلا أن الكتابة لم تكن عملا ميسراً للناس يزاوله كل فرد ، بل كان عملاً حيوياً ومقدساً يزاوله أفراد مميزون ، ولم تكتشف إسرار الكتابة النوبية بعد حتى نعتمد على ما سجلوه بأنفسهم .. وللآثاريين وجهة في فهم التاريخ مما يلقونه من الرسوم والخطوط وما يجدونه في المقابر من عظام بالية ، وآنية ونقوش.
ولكنها لا تقدم علماً ثابتاً لا يلأتيه الباطل ، ولكنه على كل حال مهم لتلقي إشارات المعرفة ورسم صورة ذهنية لحياة الناس اعتمادا على وجهات نظر هؤلاء العلماء ، وإن اختلفوا فيما بينهم في بعض وجهات النظر .. ولعلماء اللغة وجهة أخرى في فهم الأحداث والوقائع اعتماداً على ما يطلعون عليه من كتابات ونقوش . وذلك على رغم ما في اللغات من تداخل ، وصعوبة فك الارتباط بينها ، على نحو ما فكرت تركيا في عصرها القريب بإحلال غير العربية في اللسان التركي بقهر السلطان وبريق الترغيب ؛ فهذه اللغة كانت تحتوى في معجمها على ما يزيد عن ال 60 % من الألفاظ العربية ، كما كانت تكتب بالحروف العربية في زمن الدولة العثمانية ؛ فاستعيض عن الحرف العربي بالحروف اللاتينية عام 1923 ، بعد تأسيس الجمهورية التركية الحديثة ، وبدأوا في تحديث هذه اللغة باستمرار من قبل مجامع اللغة التركية بهدف تنقيتها مما خالطها من المفردات العربية والفارسية الكثيرة .. لكن العربية تأبت عليهم ، وقد وجدت مرتعا خصبا ً، ثم استقرت عزيزة تمنح اللغة التركية ما لا تملكها اللغات من كبرياء وما تفتقدها من روحانيات . …. نواصل .
(*) أصل هذه الدراسة أعد على عجل تحضيراً لمداخلتي لورقة علمية بعنوان : (النوبة أصل العرب) بقاعة الشارقة يوم 23 أبريل2018