يواجه الباحث عن الفن التشكيلي السوداني الحديث مشكلة قلة المصادر والمراجع حتى المراجع ـ مرجعين ، أحدهما كتاب الدكتور /راشد دياب : “الفن التشكيلي الحديث” وكتاب الاتحاد العام للتشكيليين السودانيين والذي ساهم في إعداده نخبة من التشكيليين السودانيين ـ التي كان يمكن أن تكون مصدراً مفيداً للباحثين لأنهما الكتابين الذين حاولا أن يؤرخا للفن التشكيلي السوداني بشكل شامل، واجه الكتابين عقبات في النشر أو التوزيع فالأول كتاب راشد دياب حجبته المحكمة بسبب قضية من قضايا الملكية الفكرية لم تحسم.
وقد اتيحت لي فرصة الاطلاع على كتاب راشد دياب دون مطالعته كما اتحيت لي فرصة الاطلاع على معظم مادة كتاب إتحاد التشكيليين إن لم يكن كلها، بسبب مشاركتي في تأليفه بالكتابة عن الفن التشكيلي المعاصر في شمال السودان وأيضاً الكتابة التحليلية لأعمال عدد مقدر من التشكيليين السودانيين ، أما كتاب اتحاد التشكيليين السودانيين فرغم انتهاء كل مراحل التحرير والتصميم الخاصة به لم يطبع، ولا علم لي بالسبب في ذلك.
السبب الآخر هو قلة المصادر فمن فصول الكوميديا السوداء في بلادي أننا حتى الآن في السودان لا نملك متحفاً للفن التشكيلي المعاصر !! والذي يعتبر بمثابة ذاكرة للأمة ومرجعاً للدراسات.
أكتب هذه المقالة مستنداً على قراءات سابقة لمساهمات كثير من التشكيليين السودانيين منهم د. أحمد الطيب زين العابدين وفي عدد من المقالات وصلاح حسن عبد الله شكل أساسي في كتابة “مساهمات في الأدب التشكيلي” وعلاء الدين الجزولي في كتابه “جحا” الرسام السوداني موسى قسم السيد كزام ومقالات أخرى حول الفن الفطري وغيرها ـ كما قرأت مقالة الدكتور المرحوم حسن الترابي “الفن والدين” وكتيب المرحوم الأستاذ / محمود محمد طه “الإسلام والفنون” ومقالات لحسن موسى مثل “الجمالية العرقية” وبعض مقالاته في جريدته “جهنم” ومقالات الدكتور عبد الله بولا “مصرع الإنسان الممتاز”.
وبعض كتابات الدكتور / محمد عبد الرحمن حسن “كتاب عمر خيري” وكتاب “متاهة صلاح المر” وكتابه الفائزة بجائزة الشارقة للنقد وكتاب عبد الرازق عبد الغفار ومقالة الصادق المهدي في الفن التشكيلي في مجادلته للتأسيس لفن قومي وكتاب “قرين لو” عن مادة التربية الفنية في السودان.
بالإضافة إلى مقالات أخرى ومعلومات من الندوات والمعارض والملتقيات التشكيلية كل هذا يمثل مرجعاً لي لكتابة هذه المقالة من الذاكرة تقريباً.
لدراسة الفن التشكيلي المعاصر يمكن قسمته إلى قسمين أساسيين أحدهما هو ما اتفق على تسميته أخيراً بالفن الفطري وهو يعني الفنانيين الذين لم يتلقوا دراسة أكاديمية.
من أعمال موسى قسم السيد كزام المشهور بـ (جحا)
والمجموعة الثانية أو القسم الثاني هم الفنانيين خريجي كلية الفنون الجميلة والتطبيقية ــ الخرطوم ــ والكليات والمعاهد المشابهة.
سنبدأ بالفنانيين الفطريين والذين سنقسمهم إلى قسمين الأول “الفطريون الأصوليون” ونقصد بهم أولئك الذين ينتجون أعمالهم أصالة عن أنفسهم دون التأثر بأساليب واردة من الخارج ، ويمكن أن يكون خير من يمثلهم الفنانون والفنانات الفطريون في شمال السودان في قرى النوبيون الذين يزينون منازلهم بالرسم على الجدران بخامات محلية معظمها من أنواع من التربة مختلفة الألوان ـ وتعتبر هذه الممارسة متأصلة الجذور في المجتمع وترجع لما قبل الميلاد مع الفنان النوبي ـ مع فارق أن الفنان النوبي القديم والذي تظهر رسومه ومنحوتاته على المعابد والقصور وكان فناناً محترفاً ذو تقاليد وأسلوب راسخ وكان جزءاً من المؤسسة الاجتماعية الرسمية ـ السياسية والدينية ـ أما فناننا النبوي الأصولي المعاصر فهو يرسم أصالة عن نفسه بأسلوب تعبيري رمزي يميل للتبسيط والتلقائية.
القسم الثاني من الفنانيين الفطريين هم الذين يظهر في رسمهم تأثرهم بتقاليد الرسم الأوروبي من مراعاة أو توخي للواقعية وقوانين المنظور والتظليل والنسب ما يدل على تأثرهم بأعمال وافدة من خارج السودان أو إطلاعهم عليها في الخارج .
أقدم فنان فطري أوردته المصادر هو الفنان المرحوم ” علي عثمان” من مدينة “الخندق” في شمال السودان، ويبدو أن “علي عثمان” وكما تذكر رواية عن الشاعر السوداني المرحوم “محمد المهدي المجذوب” كان يمارس الرسم في مرسم خاص به في الخرطوم ، وأيضاً يؤيد ريادة علي عثمان لهذا المجال شهادة الفنان الفطري الآخر موسى قسم السيد كزام الشهير بـ “جحا” والذي ذكر أنه تتلمذ على أعمال علي عثمان التي كانت على جدران المقاهي في الخرطوم ويحكى “جحا” صدفة ملابسات دخوله لعالم التشكيل حيث كان في الرابعة عشر من عمره وكان يتتلمذ على مهنة النساجة وهي مهنة متوارثة في أسرته وقبيلته “الجعليين الجبلاب” وكان من عادته أن يرفه عن نفسه يوم الجمعة بالذهاب لحديقة الحيوان، وفي ذات جمعة صادف امرأة أوروبية “خواجية” ترسم بأقلام الفحم حيوانات الحديقة وبعض روادها ـ فلزمها طوال اليوم وحين رجع إلى المنزل بدأ يرسم بالفحم على أوراق الكرتون وقرر منذ تلك اللحظة أن يمتهن التشكيل ، وبالفعل صار من أميز الفنانين الفطريين بل ومن أكثر الفنانين الذين تفاعل معهم المجتمع السوداني خاصة بعد أن عرفت أعماله طريقها لعالم الصناعة فقد رسم لوحات هوية لبعض السلع لبعض الشركات منها عطور الشبراويش التي رسم لها لوحة السيد علي الميرغي للعطر المعروف باسمه كما رسم لوحة السيد عبد الرحمن المهدي أيضاً للعطر المعروف باسمه ورسم لوحة عطر بنت السودان كما رسم لشركة حلويات كريكاب لوحة حلاوة “ريا” الحسناء البطحانية ذات القصة المشهورة في التراث الشعبي السوداني.
ورسومات لشركات أخرى وإعلانات ضخمة Hording Board في مختلف مدن السودان وكان الناس يقصون لوحاته المرسومة على علب الحلوى الكرتونية ويبروزونها ويعلقونها على بيوتهم كما أنه رسم في جدران المقاهي مواصلاً ما بدأه علي عثمان ـ حيث كانت المقاهي بمثابة منتديات في المدينة حيث يتآنس فيها روادها بينما يستمعون لاغنيات الحقيبة الممعنة في الوصف الحسي للمرأة حبيسة جدران المنزل والتي لا تخرج إلا في أضيق الظروف وتخرج حين تخرج مقنعة لا يظهر إلا عيناها.
ويجسد الرسم على الجدران كلمات الشاعر في وصف الحنساء.
كما رسم لوحات شخصية لعشرات وربما مئات من الشخوص وغالباً ما يكون رسمه بالأسود والأبيض “الفحم” وهناك أيضاً الفنان / عيون كديس الذي استقر بمدينة الأبيض بكردفان وهو تلميذ “جحا” وأيضاً هناك الفنان المرحوم/ أبو الحسن مدني من شمال السودان والذي استقر بشرق السودان ويهتم أبو الحسن مدني برسم الحياة اليومية الشعبية السودانية بشكل أساسي وهناك أيضاً الفنان بدوي أبو صلاح وعوض الكريم أبو صلاح والمرحوم الفنان / فاضل الأسمر الذي يتميز بخطه الفارسي المميز ومن أشهر الفنانين الفطريين حالياً محمد مركز الذي يركز على رسم جداريات المناظر الطبيعية للبيئة السودانية ومناظر طبيعية خيالية عالمية كما أن هناك بعض الفنانين الخريجين الذين استجابوا للسوق فرسموا بنفس أسلوب الفطريين ومنهم الفنان عبد العزيز العربي..
موضوعات الفنانين الفطريين بشكل أساسي ذات ملامح رومانسية ـ ليس بمفهوم المدرسة الرومانسية ـ وإنما بمفهوم نموذجية الجمال وشاعريته إذا كان في رسم المناظر الطبيعية أو الموضوعات أو رسم الحسان ــ ونجوم السينما ـ وارتبط انتاجهم بشكل عام بالمحلات التجارية منذ بدايته مع المقاهي والمطاعم ومركبات المواصلات والنقل العامة فهم استجابو للذوق العام لمجتمعهم ربما لأنهم جزء منه في تلقيهم المعرفي.
الفنانون التشكيليون الخريجون:
من أعمال الدكتور أحمد عبدالعال
دخلت التربية الفنية السودان بشكل مؤسس منذ منتصف الثلاثينيات مع إنشاء معهد بخت الرضا وفي الأربعينيات أنشئت مدرسة التصميم التابعة لكلية غردون التذكارية “جامعة الخرطوم حالياً” ثم في 1951م انتقلت بجهود مؤسسها المستر “قرين لو” إلى المعهد الفني بحثاً عن وضع أكثر حرية ومرونة ومنذ بداياتها بدأ خريجيها المساهمة في الحراك الثقافي بشكل يختلف عن الفنان الفطري فالمعرفة التي يتلقاها الطالب يتعرف من خلالها على أهمية صنعته ومدى قوة تأثيرها في المجتمع ويسعى في إنتاجه للقيام بهذا الدور ولكن الخريجين الأوائل “الرواد” كانوا أقرب للتلقي الأكاديمي ورسموا بالأساليب الواقعية الغربية من الواقعية والانطباعية وربما الرومانسية وكان أهم أهدافهم هو التجويد بروح تميل إلى الكلاسيكية ولا تكاد تفلت منها.
ويمثل هذا الجيل علي عبد الرازق وبسطاوي بغدادي وعبد الله محي الدين الجنيد ـ وآخرون ثم جاء الرعيل الثاني في أوائل الخمسينيات في فترة بحث الأمة عن الهوية وآمالها في التقدم بعد أن لاح فجر الاستقلال وقد تبلورت رؤية لا تزال سائدة في المجتمع السوداني هي خصوصيته بتكوينه الهجين الأفريقي العربي. ليس عرقياً ولا جغرافياً وحسب بل وحتى ثقافياً ـ فالعادات والتقاليد السودانية مليئة بمؤثرات الثقافتين العربية والأفريقية بالإضافة على الهجنة العرقية ولكن كان هناك دائماً هيمنة سياسية عروبية دعمها ربما بشكل كبير الانتماء الإسلامي الشاهد أن هذه الهجنة “السودانية” ظهر التعبير عنها ثقافياً في مجال الأدب بما عرف بمدرسة الغابة والصحراء حيث الغابة هي أفريقيا والصحراء هي الانتماء العروبي ـ وفي التشكيل عبرت عن نفسها بما سمي مدرسة الخرطوم لم تأتي داعواي الغابة والصحراء ومدرسة الخرطوم من فراغ فهناك معطيات موضوعية أدت لتبلور هذه الفكرة والتي أتت لتعبر تماماً عن الواقع السياسي والاجتماعي الذي كان سائداً ـ حيث يمكننا الرجوع بهذه المعطيات إلى بدايات إطلاع الخريجين على ما يحدث في العالم من حولهم من دعاوي للقومية في أوروبا ثم في دول المشرق العربي ودعاوى التحرر وذلك منذ العشرينيات والثلاثنيات وظهر ذلك في جمعيات اللواء الأبيض ثم مرة أخرى بشكل متواري خلف النشاط الثقافي في مؤتمر الخريجين. وما زاد في هذا التوجه موافقة النحاس باشا على إعطاء السودان حق تقرير المصير عام 1937م ولكن ربما أول من عبر عن فكرة تميز الهوية السودانية هو الشاعر حمزة الملك طمبل في ديوانه “الأدب السوداني وما ينبغي أن يكون عليه أو ديوان الطبيعة “.
إذن هذه الصيغة الثقافية هي تعبير عن حوارات عميقة ونضالات الشعب السوداني في بحثه عن الاستقلال وعن صيغة الحكم ما بعد الاستقلال.
اعتمدت مدرسة الخرطوم التشكيلية على استخدام ايقونات من التراث السوداني في محاولة للتأصيل ورسم لوحة قريبة من الوجدان السوداني، كما أفاد الصلحي في عبارة بهذا المعنى .. ولكن دعاوى مدرسة الخرطوم تعرضت لنقد لاذع من مجموعة “الشبان التشكيليين ” واتهمت بانتمائها للمؤسسة الاستعمارية وذلك في السبعينيات ..
وظهرت في السبعينيات مدرسة تشكيلية أخرى هي المدرسة الكرستالية التي مشت في الاتجاه المعاكس لمدرسة الخرطوم رافضة فكرة استلهام التراث وداعية للتجريب وتعتبر الكرستالية من أكثر المدارس التي أثارت جدلاً بإدخالها أساليب تعبيرية جديدة أقرب للعبثية الدادية كما أنها قدمت خطاباً فلسفياً مصبوغاً بالميتافزيقيا والغموض وكذلك هاجمتها مجموعة الشبان التشكيليون باعتبارها شكلاً من أشكال البرجوازية.
من أعمال بروف إبراهيم العوام
وفي الثمانينات ظهرت ما عرفت بمدرسة الواحد متزامنة مع انقلاب الانقاذ الذي جاء في 30 يونيو 1989م يقول أحمد عبد العال إن مدرسة الواحدة تحاول أن تلتقي مرة أخرى مع الخط الإسلامي العالمي وهي عبارة توحي بارتباط هذه المدرسة بالمشروع الإسلامي العالمي ، فهل جاء ذلك بشكل مستقل أم أنها كانت ومنذ البداية جزء من “المخطط” الرادكالي للإسلام السياسي في السودان من خلال انقلاب الجبهة الإسلامية على الديمقراطية ؟ في كل الأحوال نجد أن مشكلة الهوية لا يزال هي المحور الأساسي لهذه المدرسة مما يعني أنها ملتبسة بالخطاب الأيديولوجي بشكل كبير ولكن حين البحث عن عطاء هذه المدرسة. أثره نكاد لا نستبينه إلا في بعض القشور بنفس طريقة مدرسة الخرطوم بإستلاف الرموز من “التراث” السوداني مع التركيز هنا على الرموز التشكيلية الإسلامية “السودانية” متمثلة في الثور والقبة وبعض مظاهر الطقوس والشخوص التي ترمز للصوفية ـ هذا بشكل عام في أعمال أحمد عبد العال ـ وربما جاءت بعض أعمال الأستاذ أحمد حامد العربي أكثر عمقاً وتعبيراً عن مدرسة الواحد.
ويمكن أن نجد جذور هذه المدرسة في مدرسة الخرطوم نسخة “شيرين وحوارييه” الذين يركزون على المكون العربي الإسلامي ـ خاصة الحرف العربي.
على أي حال لم تجد مدرسة الواحد رواجاً ثقافياً. هناك أيضاً بعض الفنانين السودانيين الحروفين يعتبر أقدمهم عثمان وقيع الله كما هناك دكتور أحمد عبد الرحمن وبعض شباب التشكيليين .
في أواخر الثمانينات كان هناك مدرسة أخرى أسس لها سيف اللعوتة وصلاح إبراهيم ـ وهي ما عرفت بمدرسة الواقعية السحرية وقد أثرت بموضوعاتها المستندة على الموضوعات الخرافية وألوان الغابات المميزة من نباتات وطيور وحيوانات ولكن هذه المدرسة لم تصدر بياناً وإن كانت لصلاح إبراهيم بعض المساهمات الكتابية لم تمس بصورة مباشرة فلسفة المدرسة أو أسلوبها.
للموضوع بقية ……..