ترى ما هي الحكمة التي حملت على قوى الحرية والتغيير، وعبدالله حمدوك، والمسؤولين في وزارة الخارجية، الإصرار على صفع مطالب الثوار، ومن ثم فرض دبلوماسيي التمكين من الإسلاميين والانتهازيين على سفاراتنا، ذلك برغم التنبيهات الكثيفة لسودانيي الدياسبرا، أولئك الذين ذاقوا الأمرين من هؤلاء الدبلوماسيين اللئيمين في التعامل؟.
الأكثر من ذلك، لماذا نبعث سفيرًا إلى البرازيل اصلاً، وما العائد الضخم الذي نجنيه من ذلك، وهل إذا رشدنا الثلاثين ألفا من الدولارات التي هي تقريبًا تكلفة مرتب، وإقامة، ومكتب السفير هناك، نستطيع أن نقيم بهذا المبلغ عشر مدارس ابتدائية في مناطق النزاع كبادرة لزراعة السلام، وتعويضا للخراب الذي أحدثه النظام البائد هناك؟ ألا يحل ذلك المبلغ إذا جُمع لعامين مشكلة المجاري، وتراكم النفايات، والتي جعلت عاصمتنا من أوسخ العواصم الأفريقية والعربية؟. أوليس من الأفضل لنا أن نوظف ذلك المبلغ لحماية أهل القاش من الفيضان الموسمي الذي يغرق السكان، وألا يحل مشكلة المياه في شرق السودان، والتي ظلت منذ الاستقلال تقف دلالةً على تتفيه المركز لاهتمامات السواد الأعظم في المدن والأرياف؟
إن ثورة ديسمبر التي هي قمة نضال الثلاثة عقود كانت ذات مضامين مفاهيمية، ولم يلتقط نافذو قحت، وحمدوك، ووزراؤنا معانيها، وإلا لكانت الأولوية قد تمثلت في إزاحة السفراء المؤدلجين عاجلا، مع ترشيد الصرف المهدر في سفارات الخارجية، وفي مؤسسات كثيرة أسسها الإخوان المسلمون لإعانة كوادرهم. وربما التقط قادة قحت والحكومة، تلك المعاني الثورية العظيمة، ولكنهم آثروا أن يستهتروا بالاهتمام بها.
الحقيقة أن لدينا سفارات كثيرة في الخارج، ولا تحقق شيئا ملموسا للبلاد. فلا هي قادرة على جلب استثمارات شفافة، وحقيقية، أو إقالة عثرات مواطنينا هناك في الغربة، ولا هي قادرة على عكس تراثنا الثقافي، أو استجلاب منح أكاديمية من الجامعات المعتبرة لطلاب الدراسات العليا. كذلك لا هي قادرة على نقل التكنولوجيا لمصانعنا، أو مشاريعنا الزراعية، والإنتاجية، ولا هي قادرة على تقديم وعي مؤسس بالثورة السودانية.
والدليل على كل هذا أن أداء الخارجية في الثلاثين عاما الماضية كان صفرًا من ناحية خدمة البلاد. فظروف العزلة جعلت سفراءنا ضيوفا من غير فاعلية في عالم تلعب فيه توجهات الدولة دورًا في تنشيط عائدها الدبلوماسي. هذا بخلاف أن السفارات كانت مجال رزق ليس إلا للسفراء، بينما وجدنا الموظفين فيها هم الذين يخدمون تعاملات السودانيين في المنفى، وبينهم إداريون غلاظ الطبع لا يتورعون من الإساءة للمواطن داخل سفارة بلده، وإن لزم الأمر تسليمه لجهاز الأمن. وقد شهدنا كيف أن معظم هؤلاء الدبلوماسيين – نتيجة لعدم وجود شيء يقدمونه للبلد – صاروا يتجسسون على المواطنين السودانيين المقيمين في الخارج. فضلًا عن ذلك فإن فضائح هؤلاء الدبلوماسيين الذين لا يعرف بعضهم لغة البلد الذي هم فيها أزكمت الأنوف، إذ ضبطوا في تصرفات لا أخلاقية أساءت لتاريخ مشرف لكثير من الدبلوماسيين السودانيين.
يبدو أن حمدوك تحديدا – وهو المسؤول الأول عن الجهاز التنفيذي – صار لا يبالي بشعارات الثورة، واحترام تطلعات غالب الشعب السوداني، وأولها إزالة كل الذين خدموا التمكين. ولو كان يقدر دماء الشهداء لاستجاب لنداء ثوار الداخل والخارج الذين كشفوا مساوئ هؤلاء السفراء، وكتبوا البيانات، والمقالات المثبتة، التي بينت ارتباط بعضهم بتنظيم الحركة الإسلامية، وكيف أنهم كانوا أدوات للتمكين فيما وجدنا من هم أهل للثقة، والكفاءة، لتمثيل البلاد خارجيا قلة قليلة جدا في الثلاثة عقود الماضية.
لقد أتى حمدوك بأضعف وزيرة في تاريخ الخارجية السودانية في ظل خيارات أفضل كثيرة كانت أمامه. وما يزال صامتًا تجاه كمال حسن علي المتهم بجريمة قتل طلاب العيلفون، وهو قد اختاره النظام البائد ليتبوأ منصبا مهما في المنظمة العربية. وقد كنا ترجينا حمدوك، والوزيرة أسماء، بضغط العرب لسحبه، ولكن حمدوك ما يزال يراهن على سياسة “طول الجرح يغري بالتناسي”.
ومع ذلك، ننتظر جهد الوزير المكلف الأستاذ عمر قمر الدين – إذا أصر حمدوك على تجاهل النداء الثوري – ونحثه أن يضغط في هذا الاتجاه، ويستجيب لنداءات الثوار، والكتاب، بضرورة سحب ترشيح الخارجية السابق كمال حسن علي لهذا المنصب، وهو أصلاً من الكوادر المتطرفة للإخوان المسلمين السودانيين. ومهما يكن التعذر المخجل بأن كمالًا أتى به النظام السابق لهذا المنصب فإن الدبلوماسية السودانية إن كانت لا تملك عناصر الضغط المبررة على العرب لإقالة من اُتهم بقتل طلاب العيلفون فما هي قيمتها أصلاً؟
بحكم مطامح الثوار في إعادة “هيكلة عقل الحكوميين” فإن الضرورة كانت تحتم على مجلس الوزراء تقدير ظروف البلاد الاقتصادية التي تسحق المواطنين الفقراء، وتثوير الخارجية بأن يتم تقليص عدد هائل من سفاراتنا، والإبقاء على ممثل مقيم، وبعض الموظفين لمساعدة المواطنين في إجراءات الأوراق الثبوتية. وذلك حتى نرشد الصرف الحكومي في ظل هذا التخبط الاقتصادي ثم نعود تدريجيًا لفتح السفارات. ولكن يبدو أننا أقلنا رموز النظام، وحافظنا على سياسته في عدم تقدير أولويات المواطن.
جانب من المأساة الحكومية في التعامل مع إرث الخارجية يتعلق بعدم الاستعانة بالكثير من المفصولين من الوزارة وتجاهل تعيينهم كسفراء ما دامت الحكومة تستعين أصلا بخبرات مهنيين غير دبلوماسيين بالتخصص ليكونوا سفراء. ولا نخال أن تاريخ الخارجية في الأنظمة الديمقراطية يخلو من تعيين سفراء من خارج السلك الدبلوماسي، وبهذا المستوى لماذا لا يوظف حمدوك هؤلاء المفصولين الذين كانت لهم الخبرة، بدلًا من السفراء الإخوان من متقاعدي القوات النظامية، والأمنية، وهناك الذين يحتفظ بهم حتى هذه اللحظة؟
في ظل وأد الشفافية، وحجب المعلومات، وتجاهل احترام الشعب، وثواره، لا نتوقع سوى إجادة دفن الرؤوس في الرمال!