حكاية الشعب السوداني مع السياسات اﻹقتصادية لحكوماته تشبه إلي حد كبير قصة رجل من قريتنا اتفق ابناؤه مع مختصين بحفر بئر سايفون داخل المنزل وأكمل الحفارون حفر ثلاثة امتار في اليوم الاول ، وعند عودة اﻷب صاحب المنزل من مزرعته مرهقا و بالتأكيد جائعا وعطشانا لم ينتبه للحفرة فسقط داخلها فأسرع ابناؤه ﻹخراجه من الحفرة ، فلما رأهم قال لهم غاضبا :-(جيبوا الكواريك وأدفنوني وامشوا أعملوا فراشكم)، لخص الرجل بتعبير غاضب وساخر في نفس الوقت إنتقاده لسوء عمل اولاده واهمالهم لعواقب حفرهم تلك الحفرة وعدم تغطيتها .
تصرف حكوماتنا اشبه بتصرف ابناء ذلك الرجل ، وكأن الرجل هو الشعب السوداني .
في العهد السابق للثورة ابتدع رئيس الوزراء معتز موسي سياسة إقتصادية سماها الصدمة ( وهي اعلانه رفع الدعم بالكامل عن السلع والخدمات الضرورية) ،وقد كان صادقا، فقد فصدم الشعب السوداني وتركه ملقيا في الشارع ومضي إلي حال سبيله، وظل الشعب مصدوما ملقيا علي الطريق حتي جأءت حكومة الثورة فبدلا من أن يسرع رئيس وزرائها حمدوك بإسعاف الشعب المصدوم صرح بأنه سيعبر وكان الظن أن يعبر بالشعب ولكن الواقع يقول أنه سيعبر فوق الشعب المصدوم سلفا ، وشتان ما بين العبور بالشعب والعبور فوق الشعب . والعبور فوق المصدوم هو سحقه.
صدمة معتز أرهقت الشعب وزادت معاناته اليومية في الحصول علي قوت يومه ومواجهة مصروفات الغذاء والتعليم والصحة والمواصلات ،
واما عبور حمدوك فقد جاء بالشر اﻹقتصادي المستطير فتجاوز سعر رغيف الخبز الخمسة جنيهات وبلغ سعر الدولار المائة وستون جنيها ووصل سعر الوقود والدواء ارقاما فلكية وقد اسهمت جائحة كورونا في تفاقم اﻹنهيار اﻹقتصادي نتيجة للحجر والحظر فإنحسر اﻹنتاج وتعطل الصادر ، وفقد الناس مصادر دخلهم ، فأصبح الناس وكأنهم في سجن كبير بحجم الوطن ولكنه يضيق تحت وطأة الفقر والمرض والغلاء الفاحش .
يبدو أن حمدوك يركز علي أن يعبر بالشعب سياسيا ودون أن ينتبه بأنه يعبر فوق الشعب إقتصاديا ، فكيف يعبر بالشعب سياسيا ، وهو يسحقه إقتصاديا، ذلك هو المستحيل بعينه.
نحن اﻵن تحت وطأة السحق الرهيبة حيث وصل ثمن تذكرة السفر بالبصات بين الخرطوم ومدني( اقرب العواصم الولائية الي الخرطوم) مايعادل تذاكر السفر من الخرطوم الي مدن الخليج طيرانا قبل سنوات قليلة، ونتوقع أن يكون المصروف اليومي للتلميذ أو الطالب الواحد مايقارب المائة جنيه كحد أدني، مما يهدد بإنهيار كامل للتعليم ﻹستحالة تحمل اﻷسر تلك التكاليف الباهظة لتعليم أبنائهم ، فاﻷسرة المتوسطة ( 6-7 افراد) تحتاج لمايزيد عن عشرة الف جنيه لمقابلة مصاريف اﻹسبوع الواحد كحد أدني.
الحقيقة المؤسفة والمحزنة اننا كشعب صدمنا معتز وسحقنا حمدوك ، ولن يسعفنا تصحيح المسار ولا كشف الحساب ﻷن وضعنا اﻹقتصادي المنهار صار مكشوفا وهو الثغرة التي اهملتها الحكومات ليتسلل منها اﻹستهداف من داخل السودان ومن خارجه. فمن يخبر حمدوك أن العبور يبدأ بمعالجة الملف اﻹقتصادي أولا وهو نفسه الملف الذي تجاهلته الحكومات السابقة فأنتهي بها الي الزوال .