كانت مبادرة كبيرة وعظيمة تلك التي قام بها وفد الإدارة الاهلية بقيادة السلطان صديق ودعة وسعيهم إلى التوسط في معالجة الصدامات الدامية التي وقعت بمدينة كادوقلي بجنوب كردفان.
وهذا ليس غريباً عليهم، فقد كانوا حضوراً بقوة في
معالجة مشكلة النوبة والبني عامر ببورتسودان في أكتوبر2019م. فالتحية للسلطان ودعه
ووفده الكريم الذي ضم العميد طيار متقاعد يوسف أحمد يوسف ناظر قبيلة رفاعة، والمك
لطفي حسن دكين مك عموم قبائل البوادرة، والناظر محمد المنتصر ناظر البطاحين،
والشرتاي ىدم أبكر من شمال دارفور، والملك علي عجيب عن الجموعية. بل التحية للإدارة
الاهلية بكادوقلي الكبري من حوازمة ونوبه وكل مكونات المنطقة الاجتماعية، وكذلك
التحية لأبناء المنطقة المثقفين (دون تفصيل لا حتى تسقط بعض الأسماء) الذين
تفاعلوا مع الحدث، وشاركوا في حوار وفد الإدارة الاهلية الزائر، وعملوا بتجرد جنباً
الى جنب في إنجاز حوار راقٍ شفاف، وضع اسساً لوقف العدائيات. فكانت بادرة ونموذجاً
لعمل شعبي أكد تلاحم ووحدة المجتمع السوداني، وهنا تبدو عظمة هذا الوطن بمكوناته
وتنوعه الغني بقيم المحبة.
رغم تعالي بعض المثقفاتية على الإدارة الاهلية،
ومحاولتهم تحميلها كثيراً مما يحدث من إخفاقات مجتمعية وتفلت، وهم يعلمون أن ما يحدث
هو جزء من منظومة الفشل للحكومة المركزية، وامتداداتها في الولايات، منذ الاستقلال
وعجزها عن وضع سياسات تستوعب معنى التنوع الاثني والثقافي والجغرافي، وفق برامج يصحح
بناء هياكل الحكم المركزي المائل، ومسألة تقسيم السلطة والثروة والعدالة في توزيع
مشاريع التنمية.
من جانبي أشيد كثيراً بدور الإدارة الاهلية الفعال
وحضورها المستمر في معالجة قضايا المواطن،
بعد أن غاب دور الدولة، وانحسار ظلها وهيبتها في أقاليم الريف البعيدة، رغم محدودية إمكانياتها وضعف صلاحيتها.
لقد ظلت الإدارة الاهلية حضوراً اينما نشبت حرائق أو اشتعلت
الفتن، وهي ترسم خطوطاً لمنع تمدد الحرائق، وفي ذلك نحيي جمبع النظار والمكوك
والعمد والشيوخ بالولاية على ما يقومون به جهود في حفظ الأمن والسلم الاجتماعي بين
المكونات السكانية للمنطقة.
كان الراحل المقيم المرحوم دكتور فضل الله علي فضل وهو
ذلك العالم ابن بادية الكواهلة بمنطقة أم بادر بشمال كردفان والمهتم بالتنمية
الاقتصادية والاجتماعية والإدارية والراصد لحركة وأنشطة المجتمعات الريفية. فقد
كان يقول إن القبيلة هي الملاذ الآمن عندما تضعف الدولة، ويغيب سلطانها، وتنحسر
هيبتها، ولا يرجي منها حماية للمال أو العرض، وفرض القانون. ففي هذه الظروف يعود ويلجأ
الفرد الى حضن قبيلته الآمن، فتنصره مظلوماً، وفي بعض الاحيان حتى وهو ظالم، وذلك
مؤشر لبداية أفول سلطان الدولة، وأخذ القانون باليد، وانتشار الفوضى، وهو في ذلك
يؤكد ما جاء في مقدمة ابن خلدون حول نمو وتطور المجتمعات الحضرية والريفية.
إن قراءة الحال في جنوب كردفان كانت واضحة تماماً منذ أعوام
83/84/85 م بعد حدوث تقاطعات كثيرة في المنطقة بتمدد عمليات الحركة الشعبية من
محيطها الجغرافي والتاريخي بجنوب السودان ودخولها جنوب كردفان وبناؤها جيشاً
قبلياً، بدأ خطأً باستهداف قبائل وإثنيات وفرقاناً وقرى بعينها. ربما يتذكر البعض
أغنية الدرملي التي يقول مقطعها:
” النور جاني يتبسم.. علي ول دربو رفع كمه وقال
المال ما بيهمه.. علي سلام تورو مدنبل لي نزلت فوقوا نسورا..”
النص الصحيح للأغنية “علي سُلانج، وليس على سلام
كما هو متداول في الأغنية الآن.. والنور هو ابن تاشيخ علي سُلانج، أحد وجهاء
وكرماء الحوازمة الذي اغتالته وآخرين غدراً الحركة الشعبية في هجوم على فريقهم
بمنطقة “أم سكينة ” جنوب مدينة تلودي عام 84م.
ولم يكن ذلك هو
الحدث الوحيد الذي ارتكبته الحركة الشعبية في حق المواطن، بل كان قبله وقوع أحداث
في ضواحي الليري، وبعده حادث القردود أم ردمي المأسوي الذي قتلت فيه الحركة في ليلة
واحدة من شهر رمضان 1985م اكثر من 100 شخص من الرجال والنساء والأطفال، مستخدمة الأسلحة
الثقيلة والدانات المتفجرة ضد مواطن بسيط لا ناقة له ولا جمل مما يحدث في المركز
الاتحادي، الذي تمردت عليه الحركة، فيما كانت تتجنب الهجوم على حاميات الجيش.
ومع ذلك تناور الحركة الشعبية اليوم بعدم الجلوس في
المفاوضات مع بعض الرموز القيادية في حكومة الثورة الانتقالية بادعاء أنهم قتلة وأياديهم
ملوثة بدماء مواطنين أبرياء.. أي معايير هذه في التجريم التي تطبقها الحركة أحياناً
وتعلقها في مواقع أخرى؟! فجرائم الحركة تفسرها أسباب العداء والمقاومة الشرسة التي
واجهتها في هذه المنطقة، وعدم تمكنها من ايجاد موطئ قدم، رغم أهميتها الاستراتيجية
لها.
قد تبرر الحركة حدوث هذه المجازر، بأن القيادة كانت في
ذلك الوقت في يد الجنوبيين. لكن نستغرب كثيراً استمرارية ذات النهج العدواني في
التعامل مع الآخر من مواطني الولاية حتى اليوم، فكان زرع الألغام في المراحيل،
ونهب المواشي، وإدخالها ما يسمى بالمناطق المحررة المحمية من الملاحقة باتفاق وقف إطلاق
النار، مما جعلها بورصة لتداول المنهوب من قطعان الرحل.
يل زادت دهشتي وتعجبي لبيانات الحركة الشعبية في الأيام
الأخيرة، التي قزمت بها نفسها وأصبحت سجالاً قبلياً تجرم فيه قبيلة الحوازمة تارة بطريقة
عنصرية، وفي بيانات أخرى ترفض وتعارض تعيين والي الولاية لمبررات أثنية، أو كونه
ينتمي لتنظيم سياسي ترفضه، وهو ابن الولاية الذي توافرت فيه متطلبات ومواصفات
الحاكم، ناسية حق المواطنة ومستحقاتها.
إنه ذات الإقصاء والتمييز السالب الذي تحاربه الحركة إن
صدقت فيما تقول. ولي تساؤل كما هو لدى كثيرين غيري، هل تقرأ الحركة الشعبية مؤشرات
الرأي العام هذه الأيام على مستوى الولاية والوطن، واستياءه المطلق من مناوراتها
برفضها التفاوض على السلام، وتعطيله لأسباب غير مقبولة البته تتقاصر أمام أفكارها
المعلنة.. يا رفاق انتبهوا فالمواطن قد ملً الحرب الطويلة التي ضاعت فيها مصالحة،
نعم المواطن يريد السلام.. السلام.. ثم السلام وليس التحوصل والتمسك بتوجهات ايديولوجية
لا معني لها عند كوكو وأحمد.
أليس كافياً أن نعتمد حكومة ثورة ديسمبر المجيدة نظام
الدولة المدنية الذي يستوعب ويؤمن كل طموحات الحركة الشعبية وغيرها. من رأيي أنه لا
داع لمضيعة الوقت في مقاومة وتعطيل جهود البحث عن السلام، وبنائه الذي سيأتي بقوة،
ويفرضه المواطن بنفسه، إذا لم تأت به مفاوضات جوبا حيث يتشاكس أمراء الحروب.
انعقد مؤتمر الحركة الشعبية الاستثنائي في أكتوبر
2017م الذي كنت فيه حضوراً وشاهداً ممثلاً عن مرجعيتي السياسية، الذي نقلت عنه أن
الحركة الشعبية قد حققت فيه نقلة تنظيمية ومؤسسية كبرى بتأكيدها أفكاراً ومعاني تركت
في نفسي وفي نفوس آخرين انطباعاً إيجابياً رغم المرارات والجراح العميقة التي كنت أحملها
في جنباتي جراء معاناة أهلنا من استهداف الحركة الشعبية لهم، التي تركت في كل بيت أرملة
ويتامى ومرارات ودموعاً ظلت تسيل مع ذكر اسم الحركة الشعبية.
وكانت قناعتي بعد المؤتمر أن ذلك ماضٍ ينبغي تجاوزه
بالانتقال إلى حل سياسي يعالج ما حدث في الماضي، وفي ذلك يحضرني تسامح الزعيم
مانديلا الذي سجنه البيض نصف عمره، فعالج الوضع بالتسامح، بعد أن انتزع السلطة، فأعاد
الحق لأهله، وحافظ على السلام مع البيض. فالحقد والانتقام ابداً لن يجلبا السلام
والاستقرار. لأسف رغم المحاولات اللاحقة عقب المؤتمر لمد جسور التواصل والحوار فقد
وجدنا أن الحركة الشعبية جناح القائد الزميل الحلو تقف في مكان واحد، ولا ترغب في
اي حوار جاد حتى على المستوى الشعبي، يُخرج اهل المنطقة مما هم فيه من ضيق وكبد.
وأنتهز هذه الفرصة لأوجه نداءً للرفاق قيادات الحركة وأدعوهم
بحق الزمالة والصداقة وحق المواطنه بأن يفرقوا بين ما هو محلي يتعلق بمواطن
المنطقة ومصالحه، وبين ما هو مركزي يتعلق بإصلاح نظام الحكم، وتأسيس الحرية
والسلام والعدالة التي تقوم عليها المواطنة الكاملة. يل أقول دعونا نعالج كل في
مظانه، وهل لكم الاستماع إلى وجهة نظر ابن المنطقة الذي قد تلتقون معه في كثير من
المحطات، بدلاً من الاستعانة بالخبير الايديولوجي ممن يعدّون فاقداً سياسياً في
تنظيماتهم لقيادة مفاوضات الحركة مع الحكومة.
وأتحدى لو سألتم واحداً منهم أن يعدد لكم أسماء خمسة
جبال وساكنيها. إنهم كالذي وجد حفلاً في الطريق، فدخل مشاركاً في الرقص، ويقيني
أنهم لم يأتوا ابداً انحيازاً لمصالح مواطن المنطقة. فهل لكم أن تنتبهوا إلى ذلك، وإلا
فإن الطوفان الشعبي آت ثم آت، وحينها سيكون لسان حال الساكنين: “ما أنا
إلا واحد من أهلي“، والنتيجة التحيز اثنياً وقبلياً والدخول في حرب أهلية
لا منتصر فيها ولا مهزوم، بل خسارة للجميع مع استمرار معاناة مواطن المنطقة.
في الختام التحية للأخ الوالي الدكتور حامد البشير،
فقد عرفناك محباً للمنطقة وأهلها، بل أنت متهم من كثيرين بأنك منحاز بإفراط لأهلك النوبة
في كثير من المواقف.
وفي تقديري
أنه ليس انحيازاً، وإنما هي مدرسة التعايش معاً، والتوافق دون عقد، والتي نشترك
فيها جميعاً، ونأمل أن نلقى فيها ما يحررنا من عقد التخلف السياسي والاجتماعي،
والماضي البعيد، وأنت في ذلك ملزم باتباع الأسلوب العلمي في تحليل الأوضاع والتخطيط
والتنفيذ حسب الأولويات العاجلة والمهمة.
وأقول خيراً أنك بدأت بتأسيس مركز لفقه الجودية
والحوار الأهلي لمعالجة مشكلات البنية التحتية الاجتماعية، لتؤسس عليها عملاً ينقل
الجميع الى مربع وفضاء جديد، بل إن طوافك على المحليات قبل جلوسك على كرسي الولاية
سوف يمنحك قراءة حقيقية وواقعية، وسيوفر لك سنداً شعبياً واسع الطيف.
نسأل الله أن تستبين فيه الطريق للخروج من عنق الزجاجة
الذي حبس الحل والعلاج من أن يخرج الى فضاء يتنفس فيه الهواء النقي والتفكير الحر،
مع الشفافية والمصداقية، وهل لنا أن نبعد من الولاية أي شماعات يمكن أن نُعلق
عليها أي إخفاقات؟