بعد المناوشات الأخيرة بين الشِقين المدني والعسكري إثر خطابي حمدوك والبرهان حول شركات الجيش وإستثماراته الصناعية والتجارية ، ووقوعها تحت طائلة اللا قيد ولا شرط في التناول ، بمعنى خروجها إلى المُباشرة والعلنية ودوائر الضوء بلا خوفٍ ولا وجل من مآلاتها وتبعاتها المُترتِّبة على سُمعة الحكومة الإنتقالية ومدى صدق تصريحات قياداتها حول التجانس والتناغم والتفاهم الُمدَّعى بين الشريكين ،أصبح من الطبيعي أن نُمعِن النظر إلى ما يحدث من إهتزازات في الثقة المطلوب توفرها لدى الرأي العام الداخلي والإقليمي والدولي حول قُدرات وإمكانيات هذه الشراكة في تحقيق مطلب الخروج بالبلاد من النفق المظلم والوصول بها إلى برالأمان.
الإتهامات المُتبادلة بالنسبة لي تحمل وجهاً (مُشرقاً) من باب النظر إلى الجزء المملؤ من الكوب ، وهي في إعتباري إمتداد لفضيلة الوضوح والشفافية والقُدرة على التسامي عن كبت (الغبائن) بإخراج ما تعجُ به الصدور من مرارات ، وعبرهذا الباب الذي أسميه (الشفافية المُقلقة) ، أدعو كل الخائضين في الشأن العام السوداني على كافة مشاربهم من مختصين وهواة و(مُتهجِّمين) أن يُطلقوا العنان للشفافية في التعبير عن آرائهم وتوجُساتهم وظنونهم كما سأفعل أنا الآن ، يساند فكرتي ومذهبي هذا مقولة للقائد حميدتي أصبحت متداولة وكأنها مثل عامي عتيق (زمن الغتغته والدِسديس إنتهى).
قبل أيام طالعنا في الصحف ووسائل النشر الإلكتروني والكثير من المنابر الإعلامية خبراً عن حملةً قامت بها الشرطة على سوق الذهب أو عمارة الذهب بالسوق العربي ، وبحسب تصريحات القائمين عليها أنها إستهدفت سوقاً خفياً للعملة الأجنبية داخل عمارة الذهب ، ما يشغلني في الموضوع ليس واجهته الظاهرية التي قد تبدو منطقية ،
بقدر ما يشغلني (باطن) ما يمكن أن تُخفيه هذه الحملة التي إستهدفت تجار العملة في مستواهم المتوسط والأدني (صغار التجار والسِريحه) ، وذلك من باب عدم قناعتي بأن القيادات الأمنية والجهات التي تُخطط للتأمين الإقتصادي لا تعلم أن حملةً كهذه من شأنها أن تؤدي إلى إرتفاع مُبالغ فيه وسريع في سعر العملة الأجنبية نتيجة إحجام التجار الحقيقيين (مافيا الدولار وتماسيح السوق الموازي) عن عرض العملات وبالتالي إرتفاع الطلب عليها ، مع الإشارة إلى أن المصادر الأساسية لحركة الإتجار في السوق الموازي للعملات الأجنبية (مافيا الكبار) لا يتواجدون أصلاً في عمارة الذهب ولا السوق العربي ،
إذا نظرنا إلى الموضوع من منظور حسن النية يمكن أن نضعهُ تحت دائرة سوء التحليل والتخطيط وعدم التدقيق في المستهدف من نتائج ، وإذا نظرنا إليه من باب سوء النيه ما توانينا عن إتهام من قام بالتخطيط لتلك الحملة بالتواطؤ مع سبق الإصرار والترصُّد بإستهداف إرتفاع سعر العملات الأجنبية عبر تقليص حالة العرض وإرتفاع نسبة الطلب ، لأسباب ربما تتعلَّق بمكاسب سياسية تنبني على توسعة دائرة الصعوبات الإقتصادية التي تحاصر الحكومة المدنية والإعتقاد بأنها ستقود إلى إسقاطها.
بعض التصرفات والمُخطَّطات والعمليات الرسمية للكثير من الأجهزة الأمنية التي قد تبدو للعيان طبيعية وروتينية ، في كثيرٍ من الأحيان تبدو لي وكأنها تسعى إلى مرامي أخرى لا يمكن تجاهلها والبلاد تنوءُ بهذا الحجم الهائل من الإستقطابات السياسية والصراعات المصيرية بين ما تبقي من فلول الدولة العميقة داخل أجهزة الدولة وخصوصاً الأمنية والعسكرية وبين الأغلبية الشعبية التي تسعى بجدٍ وإجتهاد وتضحيات من أجل ترسيخ دولة المؤسسات الديموقراطية المحايدة وغير المُنحازة ، كيف لنا أن نخرج من دائرة الشك والحملة المذكورة تُعتبر واحدة من أدوات الإصلاح الإقتصادي التي يقف خلف تكتيكاتها ومُخطَّطاتها ودراسة آثارها ونتائجها متخصصون يُفترض أن يحوزوا على حظٍ وفير من بُعد النظر والقُدرة على التحليل الجيد للوقائع والأحداث بالقدر الذي يدفعهم لمعرفة وتوقُّع ما يضُر وما ينفع قضاياهم التي يعالجونها بإسم المصلحة العامة؟.