فرقٌ شاسع بين حكومة صعدت إلى مهامها عبر إرادة شعب وإنتصار ثورةٍ كان مهرها الدماء والتضحيات الجِسام ، وبين حكومة وصلت إلى كرسي السلطة والنفوذ عبر إنقلاب لا مناص من تعريفهُ سوى أنهُ (حكمٌ بالقوة الجبرية) ، وليت الإنقلاب العسكري كان معركة بين خصمين مُتكافئين ، بمعنى أن تتوفَّر لكلاهما الإمكانيات والقُدرات للصراع حتى يمكن في نهاية الأمر القول بأن الفوز لمن إنتصر ، ولكن المُخزي في موضوع الإنقلاب العسكري أنه معركة بين حائزٍ على السلاح بأمر قانون أقرهُ الشعب ، وبين ذات الشعب وهو أعزل وبلا حيلة ، فالإنقلاب العسكري ليس فقط إستلابُ سُلطة من سُلطةٍ أخرى في ليلٍ بهيم وعلى طبول الغدر والخيانة ، بقدر ما هو في واقع الأمر إغتصابٌ لشعبِ بأكملهِ وحرمانهُ من حقهِ في إتخاذ أهم قرار يمكن أن يتَّخذهُ ، ألا وهو (إختيار) من سيكون على سُدة قيادة مسيرته نحو تحقيق آمالهِ في الحاضر والمستقبل.
لذا من المقبول منطقياً عبر ما سبق توضيحهُ ، أن تُسمى حكومة الغدر الغابرة بـ (حكومة البشير) لأنها وبعد أن ناورت وتحوَّرت إلى عواملها الأوَّلية ثم النهائية ، لم تستطع أن تخرج رغم كل ما رفعتهُ من شعارات مهيبة ورنَّانة أن تخرج من مُستنقع حُكم الفرد وجبروتهِ الذي طال حتى الذين خطَّطوا معهُ المؤامرة وشاركوهُ نشوة النفوذ والسلطة في البدايات ، ظالمٌ جداً من يسمي الحكومة الإنتقالية الحالية بـ (حكومة حمدوك) ، رغم إحترامي للرجل وتقديري لما قدمهُ ويقدمهُ من تضحيات ومُثابرة وإجتهاد إلا أن نسب الحكومة الإنتقالية إلى إسمهِ أو شخصهِ شرفٌ لا يمكن أن يدعيه هو ولاغيرهُ ، ذلك ببساطة أن ذاك الشرف ملكٌ للشعب والجماهير التي قدَّمت التضحيات والعزيمة والصبر على المكارِه من أجل الفوز بحكومةٍ إنتقالية تقود البلاد إلى مصاف الحرية والنماء والتقدُّم.
أولئك الذين يختصرون ثورة ديسمبر المجيدة في أشخاصٍ بعينهم لمجرَّد أنهم تقلَّدوا المناصب في الحكومة الإنتقالية ، إنما يستهزئون بالشعب السوداني وإرادته ويُشكِّكون في وعيهِ السياسي ، بل في عزمهِ وإصراره نحو المُضي قُدماً لإنجاز ملحمة تحرير الوطن والإنسان السوداني من غياهب عهود الظلم والظلام ، يعتقدون أن الأمر مُجرد (مزحة) أو (تمُلمُل) عارِض أصاب الناس نتاجاً للضغوطات المعيشية التي إتَّسمت بها أخريات أيام النظام البائد ، وتناسوا أن يتساءلوا بينهم وأنفسهم لماذا يصبر الناس اليوم وقد تضاعفت أوجُه المعاناة وصعوبات الحياة اليومية ؟ ،
ألا يُدلِّل ذلك على أن هذا الشعب يسعى بصبره وثورته وحكومته نحو تحقيق (مطالب أُخرى) غير يُسر الحصول على ضرورياته المعيشية وهو بهذا وذاك أحق ، شعبنا يا هؤلاء لا يجهل قيمة حقهِ في الحُرية والكرامة وضرورة إقامة العدل والمساواة وبناء دولة القانون والمؤسسات وإفشاء حرية الرأي والإعلان بشفافية عن ما يدور خلف كواليس دوواين الدولة ، هو شعبٌ وكما سجَّل تاريخهُ التليد لا يستكين ولا يرضى ولا يرضخ مُرغماً لمُجرَّد حصولهِ على ضروريات الحياة اليومية ، كيف لهم أن يعوا ذلك وهم ما زالوا في غيهم يعمهون.