الخبث والخبز في السياسية السودانية
قد يستغرب قارئ هذا المقال أو المطلع عليه، لماذا جمع الكاتب بين الخبث والخبز وهما لغويا عبارتان متشابهتان في الكلمات، ولكن القارئ سيكتشف في مضمون هذا المقال العلاقة بين هاتين العبارتين، على الرغم من أن كلمة الخبث مرتبطة بقذر السياسية وسوئها وعفنها ووسخها politics is dirty game))، أم كلمة الخبز فهو الذي يؤمن الحياة والعيش لجميع الناس فهو مطلوب من كل المخلوقات، أذن العبارتان تختلفان في مهمتهما ووظيفتها ، ولكن بكل أسف مرتبط في الوقت نفسه ببعضها البعض في كل الاحوال والأحيان.
معروف عن معظم السودانيين بالشجاعة والصراحة والوضوح والمواطن السوداني لا يكذب أبدا مهما وصلت به الأقدار والمصائب إلا ما ندر، ودائما ما يتحرى الصدق في جميع معاملاته وحياته اليومية، حتى مع أسرته لو وصل الأمر إلى الانفصال، فهل يا ترى فشل السودانيين في تطبيق هذا الشعار في ساحة وعالم السياسية وهل سرقت دهاليز السياسية المتلونة والمتقلبة الصدق من زعمائنا وغرقوا في مكر عميق خانوا فيه وطنهم وشعوبهم. فهل لجأ الزعماء السياسيون إلى استخدام الخيث اللعين وحرموا مواطنيهم من الخبز وهي طعم الحياة ومن أجله ثار الشعب ضد الطغاة على تأريخ وعصور الثورات الشعبية التي اندلعت في السودان.
حقيقة استفزني التحليلات التي تكتب هذه الأيام بأن العسكر يحاولون ومعهم بعض السياسيين وعلى رأسهم الزعيم التأريخي الصادق المهدي في إفشال مهمة حكومة الدكتور عبد الله حمدوك الانتقالية حتى تعلن استقالتها ويأتي العسكر مرة اخرى بحجة أنهم يريدون إنقاذ الشعب من ازمته وضائقته وكارثته. ولابد من الإشارة هنا إلى ان الزعيم الإسلامي الشيخ حسن الترابي كان يريد بمكره وخبثه السياسي أن يزيل الزعامة السياسية التقليدية من الأحزاب الطائفية من الساحة السياسية واعتقد أنه نجح في ذلك ولكنه لم يسمح بقوى تقديمه التواجد في نفس الساحة ومنافسته فدبر انقلاب يونيو 1989.
هل يا ترى وصل بهذه المجموعة السياسية الموجودة في الساحة حاليا ان تفكر هذا التفكير الخبيث الذي أدى إلى تجويع الناس وجعلهم يعيشون حياة ضنكة من أجل الظفر بكراسي السلطة والحكم.
حقيقة هذه أغرب معادلة وقصة سياسية تمر على دول العالم أن يبيع زعماء السياسة شعبهم من اجل أن تنصب رئيس مجلس الوزراء أو تحصل على حقيبة وزارية انها الفوضى في زمن السياسة الجهلاء.
ورحم الله الشاعر العظيم بدر شاكر السياب، فقد استبد به الوجع ذات شعور حاد وقاس بالغربة والتفتت وفقدان الاستقرار المكاني والروحي، فصرخ وهو يتذكر العراق، ، ويحلم بالشموس تنشر ضوءها الأخاذ على أطياف العراق، وأرض العراق، ويلوح له شبح الخيانة المخيف والقاتل، وفعل الجحود والنكران والتخلّي عن كل قيم وأخلاقيات المواطنة التي صاغتها الأرض، وكونها الولاء للجغرافيا، والانتماء للجذر القومي، صرخ السياب ناحباً متشنجاً يصعد الحسرات ويقاوم الانهيارات. وقال رحمه الله:
…إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون
أيخون إنسان بلاده؟
إن خان معنى أن يكون، فكيف يمكن أن يكون؟”
والناظر للمشهد السوداني الحالي يطرح سؤالا مهما، هل القضية الآن في البلاد هي أزمة خبز وقود أم مكر وخبث سياسي مقصود وتلاعب بأرواح الناس، هل يعقل أن يضيق الجيش الخناق على شعبه وعدم التعاون مع الحكومة المدينة من أجل العودة إلى سدنة الحكم من أجل دعم مجموعة سياسية معينة، ويعلم قادة الجيش تماما أن هذه المجموعة مفروضة ومنبوذة من كافة طبقات الشعب السوداني، هل يفكر هؤلاء بهذا الأسلوب ويرغبون الدخول في مغامرة جديدة للعودة إلى الحكم.
ومن زاوية أخرى هل بالفعل أن هذه الحكومة التي يقودها الدكتور عبد الله حمدوك غير قادرة على تسيير دفة الحكم نظرا للأسباب المذكورة آنفا، حيث يضع المكون العسكري العراقيل للوقوف دون وصول الاحتياجات الضرورية إلى المواطيين حتى لو عن طريق إعانات وهبات من دول شقيقة أو صديقة، وهنا يبرز سؤالا مهما وهو أذن هذه حكومة حمدوك لا تسمى حكومة، لانها فشلت في توفير أبسط المهمات الضرورية المعيشية للمواطنين حتى فشل في بسط ونشر الامن للمواطنين. والشعب لا يرحم ويعرف ان على الحكومة ان توفر له كل الاحتياجات الضرورية.
وأعود للقول وقد يفسر البعض أن تحليلي هذا يدخل في نفق معارضي الحكومة الحالية، ولكن علينا أن نعترف بالواقع نحن في زمن وعصر الديمقراطية والمدنية المطلقة والتي يريدها كل مناضل سوداني.
لا أريد أضرب مثالا لدول تجاونا تشهد حروب وصراعات سياسية اعنف من السودان ولكنها مواطننيها لا يتضرون بانعدام ضروريات الحياة بالشكل الذي يعانيه المواطن السوادني، فهنالك ثماني دول إفريقية تحيط بحدود السودان، ولكنها تشهد استقرار أفضل من السودان رغم فقر معظمها، فمثالا الصومال القريب محطات الوقود فيها بنزين بوفرة والمستشفيات تقدم الخدمات الطبية في احسن حال والغاز متوفرة بكثرة، أذن ما هي المعضلة في السودان، اعتقد أن هنالك حلقة مفقودة بل حلقات كثيرة أولها أنه بكل أسف ليس لدينا زعماء سايسيين يقدرون المسؤولين ولا يضع نظرة جداة ومحترمة للوطن الذي يعيشون فيه، والذي استغربه للذين يتحدثون على أن الإنسان في اتجاه اقتسام وحروب عنيفة فأذا كان الحال حاليا بهذه الطريقة فكيف ستكون في زمن الحروب والانقسام القادم.
حقيقة استغرب من المجموعة السياسية الموجودة كيف تفكر لمستقبل السودان وماذا تريد ان تقدم للمستقبل إذا كان كل يوم في السودان الوضع يمضي إلى الأسوأ والشعب يصرخ من ألم المعاناة.
حقيقة صنع الشعب السوداني الكثير من الثورات ولكنه لم يصل أو يحققه مأمله أذن فأين الخلل في عدم تحقيق شعارات الثورات في البلاد، والذي اخشاه ان السياسيين الذين وجدناهم منذ نعومة اظفارنا وفتحت أبصارنا فيهم ، يريدون للسوادن كذلك حتى يستعموا بخيراته لأنه تعودوا أن يعيشوا في نعيم هم وأسرهم. حقيقة هذا هو الخبث بعينه الذي رفض توفير الخبز للشعب وليس هنالك غيره. وأخيرا فبقوة سلاح الخبز تم إسقاط نظاميين عسكرين في البلاد الأولى في عصر الرئيس نميري والأخير نظام البشيرن ولكن الخبث السياسي الذي كان يمارس ضد الثورات السودانية الشعبية أحبط آمال الجماهير في السودان بكافة فئاته ففشل في تحقيقه أحلامه وتطلعاته.