تماشياً مع عادتنا السودانية المُتفرِّدة والمُتعلِّقة بـ (الخوض فيما ليس لنا به كثيرٌ علم) ، بمعنى إنبراء كل من هب ودب للفتوى في أمورٍ تحتاج من التخصصية والدراية ما يكفي لتحليلها وشرحها عبر مصطلحات مناسبة ومنطق معقول ونتائج غير بعيدة عن الصواب ، أستأذنكم اليوم للخوض في وجهة نظر لها علاقة بعلم الإقتصاد والتداول النقدي ونظرية التضخُم والإختلال في ميزان الإيرادات والمنصرفات ، وسأُسجِّل نفسي مؤقتاً في قائمة من (هبوا ودبوا) راجياً أن يغفر لي أهل الإختصاص هذا التطَّفُل ، بالرغم من أني سأتحدث عن (فرعية) لا علاقة لها بأصل الموضوع ،
إستوقفتني في الآونة الأخيرة دعوات كثيرة ومُلِّحة تحُث الحكومة الإنتقالية على إلغاء العُملة الحالية وإستبدالها بعُملة جديدة في تصميمها ومواصفاتها وعلاماتها التأمينية ، وذلك حسب تقديرهم لإغلاق الباب أمام العُملات المزوَّرة التي تم ضبطها في الآونة الأخيرة ، والتي إعتبرها الكثيرون واحدة من الأسباب الرئيسية التي أدَّت إلى إرتفاع سعر العملات الأجنبية ، حيث دخلت هذه الأوراق النقدية المزوَّرة عبر بعض دول الجوار بكميات ضخمة تم توجيهها مباشرةً نحو السوق الموازي للعملات الصعبة ومن ثم شرائها بأعلى الأسعار ، مما رفع من مُعدَّلات الطلب وُقلِّل من مُعدَّلات العرض وبالتالي توالى الإرتفاع غير الُمبرَّر لسعر العملات الصعبة في أيامٍ معدودة ، وللحقيقة فإن كل ما سبق صحيح ، خصوصاً في باب التداعيات السلبية لإنتشار العملة المزيفة في سوق العُملات ، لكن نضيف إلي هذه التداعيات أيضاً ما يمكن أن يحدث من كوارث في قطاعات أخرى كأسواق العقار والسيارات وغيرها ، حيث أصبح معظمها في الآونة الأخيرة يُفضِّل التعامل النقدي عوضاً عن الشيكات والتحويلات والضمانات البنكية الأخرى.
وقد أجابت السيدة / وزيرة المالية عن سؤال في هذا الخصوص في مؤتمر اللجنة الإقتصادية الأخير المُنعقِد بمناسبة الإرتفاع المفاجيء والمتنامي لسعر العُملات الأجنبية في السوق الموازي ، وبيَّنت أن سبب عدم لجوء الحكومة إلى إستبدال العملة هو إرتفاع تكلفة طباعتها ، فضلاً عن انها لا تعتقد أن موضوع مساهمة العملات المُزوَّرة يُشكِّل مساهمة كبيرة وتأثيرٌ بالغ فيما يحدث من حركة شراء عالية في السوق الموازي للعُملات ، ورغم تحفظنا على الجزء الأخير من التصريح وفق منطق يفرضهُ السؤال التالي (كيف عرفت السيدة / الوزيرة أن تأثير رواج العُملات المزيفة ليس بالحجم الذي يتصوَّرهُ البعض) ، إذ لا يوجد حصرٌ دقيق يُفضي إلى تبَّني هذا المنطق ، وكذلك لا يمكن الإعتماد على السجلات الضبطية لدى الأجهزة الأمنية المختصة لأنها بطبيعة الحال لا تستوفي ما لم يتم ضبطهُ.
خلاصة القول كان من الممكن أن تتبَّنى السيدة / الوزيرة إجابةً شافية ومُقنعة ومنطقية وقادرة على إيقاف سيل النصائح المتعلِّقة بتغيير العملة ، محورها الواقعي سؤال إستراتيجي (وما الذي يمنع أولئك الطابعون من تزوير عملتنا الجديدة ؟) ، إذن فالموضوع ليس مجرَّد تبديل يستهدف (عدم جدوى) ما تم تزويرهُ الآن ، بقدر ما هو متعلِّق بمجموعة من الإجراءات الأمنية والتأمينية للنقد الوطني السوداني ، الأمن الإقتصادي والجمارك وحرس الحدود في المعابر البرية والبحرية والجوية يقع على عاتقهم ضبط مثل هذه التهديدات الكارثية لأمننا الإقتصادي ، هذا بالإضافة للضبط الأمني الداخلي المُتعلِّق بالرقابة على الأسواق والعمليات التجارية وحركة الأموال والمنقولات ، كم تجدر الإشارة إلى أن الفائدة الأساسية من تغيير العُملة الحالية لا تتجاوز منفعة إستعادة الكتلة النقدية إلى النظام المصرفي ومن ثم القُدرة على تحديد حجمها الحقيقي منسوباً إلى حركة التداول النقدي خارج النظام ، أما في باب التزوير فلن يجدي أمر تغييرها نفعاً.