على آثار سياج مدرستي الابتدائية العتيقة؛ أقف وأهمس لنفسي:
ها قد مرت ثلاثون سنة…
سورها المتهالك مازال يترقّب؛ ينتظر عودتي كل سنة؛ يتذكّر اسمي عند كل بداية طابور صباحي، طالبته المحبة النجيبة.
الشّوق لها يلتحم بذاكرتي؛ لبِناتها، سلالمها، أبواب فصولها، وشجرتها الغنّاء تنبضُ في ساحتها.
أُعاينها ببصري وأتساءل في حيرة:
ما حلّ للسدرة الشامخة!؟
كنت أسقيها بأمنياتي وبراءتي كل صباح، فتزهر أوراقاً كأجنحة فراشات؛ كيف غدت هشيماً تذروه الرياح، خاوية لا حول لها ولا قوة؟! كيف استطاعوا إهمالها؟!
سنوات مرت؛ وظلّها هو مرتعي، ومأمني، سكينتي، وفسحة لهوي؛ كم بادلتها أناشيد الصباح وأهازيج الربيع، أوراقها تشدو بلحنٍ مُتَبَايِن على مدار فصول السنة.
أجدد عهدي معها كل سنة، فكم من شهادة تقديرٍ، وتفوقٍ، علقتها على أغصانها المُورِقة.
أتساءل:
إذن؛ هل نسوا تلك الصغيرة السمراء، ذات الضفائر المعقودة بالشرائط البيضاء؟؟
كيف نسوا شذا مريولي المعبق بالمسك؟! أما تذكروا عبَراتي التي انهملت على جذورك سنوات؟!
كم حفرت حروف اسمي على جذعك وأحطته بقلب أمي، وعاهدتك أني سأظل الأولى دائماً.
ضحكت في وقار، وتذكرت أنه لابدّ لكل حكاية من نهاية؛ كل شيء يندرس مابين القتام والانبلاج.
أما أنا لن أنسى!
كيف أصفح عمن كانوا ينعتونني بالسوداء؛ وكأني اخترت لون جلدي!
أغفر لمن نظروا لي باحتقار، وكأنهم ليسوا أطفالاً مثلي!! كانت نظراتهم تلومني على شحمي الزائد، وكأنه السبب لإقصائي عن ألعابهم.
مازلت أذكر يوم تكريمي في الصف السادس، بوسام الطالبة المثالية، حينها رفضت الصعود على المنصة خوفاً من تهكماتهم.
لا أنسى أبداً، حين همست للمشرفة:
“لست أَلْمَعِيّة، لا أصدقاء لي، وسأكتفي بتكريمي الأولى على المدرسة!”.
مازال في جعبتي منديلها الذي احتضن يومها دمعة سقطت من مقلتيّ، وقد مسحتها بكفها البهق و الذي ضمّ سر طيبتها، لطالما انتقصوا فرحتي بقبلات مدرساتي، والهدايا.
ومع أن الله حبَاني بصوت عذب في ترتيل القرآن، لكن كم انتابتني الرجفة والغصة كل صباح، حين يطلب مني تلاوته في الإذاعة المدرسية.
ما لك يا سور!!
وقد أصبحت مُتَهَدِّماً متشققاً!
أين اختفت أذرعك المتباهية باللوحة العريضة التي كنت تحملها، مرسومٌ عليها ذلك الكتاب العظيم والمحبرة!
هل نشفت كما أقلام المتسكعين حولك!!
لكن أتدري؟!
مازال صدى صوت أبي وهو ينادي باسمي يرتفع، كلما خرج المصلون من المسجد الملاصق لك، مازلتُ أصَلْصِل في حناياك، أعرف أنك افتقدت رأفتي.
لكنك أصبحت مغبراً كسياج المقابر، عبِقاً بريح التجاهل، اتخذت العنكبوت منك متكًأ ومسكنا
لابد أنك اكتفيت من الدمع المنسكب على صدرك، من كل السمر وممتلىء الجسد في صفوفك المكتظة.
أنا هنا اليوم لتراني؛ كيف يزيد المعطف الأبيض من إشراقتي، خلعت النظارات الطبية، وطولي تقاسم الشحم مع عرضي، لكن ما زالت ارتعاشة يديّ حين لمستك كما هي!
مي عبدالحميد
السودان