نتفهَّم أن يُجافي المنطِق الموجوعين من فلول النظام البائد في نقدهم الهدَّام لكل قرارات وتوجُّهات الحكومة الإنتقالية صحيحةً كانت أم خاطئة ، ولهم في ذلك أعذاراً منطقية كثيرة أهمها الشعور بالهزيمة وإنقطاع المصالح والمنافع غير المشروعة ، لكن ما لا أفهمهُ هو إنبراءُ من يدَّعون الإنحياز (ظاهرياً) لثورة ديسمبر المجيدة ، لذات الإنتقادات الجُزافية والمهاجمات المتطرِّفة التي أيضاً وحسب تقديري كلها تقع خارج حدود المنطق والمعقولية ، وتدفع أمثالي (قسراً وجبراً) إلى وضعهم ولو إلى حين تحت دائرة الشك والجنوح للإصطياد في الماء العكِر.
فمنذُ إعلان وزارة التربية وإدارة المناهج أول أمس الثلاثاء عن تأجيل العام الدراسي حتى نوفمبر القادم ، ضجَّت الأسافير والصحف والمنابر الإعلامية ، لا لتضيف شيئاً أو تقدِّم حلولاً ولا مقترحات بديلة ، بل كرَّست كافة جهودها لإعلان فشل وقصور أداء الوزارة وإدارة المناهج ، وإن إتفَّق الجميع أن كل عمل لا يخلو من إخفاقات وتقصير بإعتبار أن الكمال لله وحدهُ ، إلا أن هذا التهافُت المسعور والإخلاص المشكوك في أمره لأولئك النفر في تبيان وإذاعة ونشر ما يبدو إخفاقاً دون النظر إلى الظروف الموضوعية المُحيطة التي أدت إلى حدوثهِ ، فيه بلا شك قدرٌ كبير من الخُبث وعدم المصداقية وربما شيئاً من التشفي والكراهية والتنمُّر ، فإن نظر (العاقل) إلى أسباب التأجيل التي أبدتها الوزارة وجدها كلها تقع خارج نطاق إختصاصاتها ومهامها ، فهي للذين يحكمون بالعدل ليست مسئولة عن الفشل والإخفاق في الإلتزام بموعد بداية العام الدراسي إذا تواضعنا للمنطق وسألنا أنفسنا الأسئلة التالية ،
ما علاقة الوزارة بعدم وفاء وزارة المالية بدفعيات الصيانة ومُتطلَّبات الإجلاس وطباعة الكتاب المدرسي ؟ ، وما علاقتها بحدوث فيضان لم يسبق له مثيل منذ مائة عام ، هدم وأضَّر بالمئات من المدارس ؟ ، وما علاقة الوزارة بالمآلات الصحية السالبة الناتجة عن بيئة ما بعد الفيضان والخريف وبرامج وزارة الصحة في معالجتها حفاظاً على أرواح التلاميذ وصحتهم ؟ ، وهل تتحمَّل الوزارة عدم إيجاد حلول جذرية لمشكلة الخبز التي أعجزت وزارة التجارة ؟ ، أم تتغاضى وترسل الطلاب إلى المدارس دون تخطيط لما سيواجهون من صعوبات في هذا الإتجاه ؟ ، وهل وزارة التربية مسئولة عن البنية التحتية المُهدَّمة أصلاً ، والمُنعدمة حالياً بعد الخريف والفيضانات وما سيصحبها من مشكلات في عمليات الترحيل والمواصلات للطلاب إن بدأ العام الدراسي قبل معالجتها ؟ ، وهل تقديرات الوزارة للحالة الإقتصادية العامة والظروف المعيشية الإستثنائية التي تواجهها معظم البيوت السودانية اليوم وإنعكاساتها على الواقع النفسي والمادي والتحصيلي للطلاب فيه ما يعيب ؟.
على العكس تماماً أرى ما قامت به الوزارة من تأجيل وما تم التصريح به من أسباب ومُبرِّرات ، فيه من الحكمة وبُعدٌ الرؤيه والكفاءة الإحترافية ، ما يفيد واقعياً أن أمر التخطيط الإستراتيجي للمشاريع والعمليات في القطاع الحكومي قد إستعاد قُدرتهُ على التحليل الجيِّد للمؤشِّرات ، وقراءته الصحيحة للوقائع في الحاضر والمستقبل ، وأن أوان الإرتجال و(العنترية) والإعتماد في النجاح على الحماس الكاذب والشعارات الفضفاضة والهُتافات المهرجانية قد ولىَّ إلى غير رجعة ، وإن كان التأخير فيه بعض الخسائر إلا أن (درب السلامة للحول قريب).