عند بدأ إستلام حكومة الثورة لمهامها ، أعلنت مراراً بأن أهم أولويات برنامجها الإنتقالي هو تحقيق السلام الشامل ، ثم معالجة الوضع الإقتصادي المُترَّدي والضائقة المعيشية ، ثم ما تلى ذلك من مسارات إنتقالية أخرى من ضمنها إصلاح المنظومة العدلية ومراجعة بعض القوانين المؤثِّرة على الحريات العامة والحقوق ، فضلاً عن مشروع إزالة التمكين وتفكيك نظام الثلاثين من يونيو ، وكنتُ شخصياً أظُن أن مفهوم الأولويات عند حكومة حمدوك ذو حدود نسبية ، بمعنى أن يكون حائزاً على قدرٍ عالٍ من المرونة تمُكِّنهُ من النشاط والعمل والإنجاز في كافة تلك البنود مُجتمعة وفي آنٍ واحد ، على أن تُعطى الأولوية (القصوى) لعملية السلام ، لكن بدا لي الآن أنهم كانوا يعملون بنظرية (السطر اللي البعدو .. ونقطة وأبدأ صفحة جديدة) ، فالواقع الذي نشهدهُ اليوم بخصوص ما تم إنجازه في موضوع التدهور الإقتصادي والضائقة المعيشية وكذلك برنامج إزالة التمكين وتفكيك النظام البائد ، يُشير إلى أن تلك الملفات كانت مُرجأة أو مؤجَّلة لحين الفراغ أو (الإستفاقة) من (دوامة) مفاوضات السلام التي حملت في محتواها الشكلي والموضوعي على مدى الأشهر الماضية من عُمر الحكومة الإنتقالية كل ما لا يمكن تفادي وصفهُ إلا بالتلكؤ والتراجُع المتواتِر إلى الخلف فيما يرقى ولا يرقى لتعطيل تلك المفاوضات ذات البُعد الإستراتيجي في مشروع بناء السودان الجديد وإستنهاض أسباب التنمية المُستدامة.
عندما كنا نُباهي بالشعب الثواني ونُثمِّن المستويات العالية لوعيهِ السياسي والأخلاقي والقيِّمي ، ونربو به بعيداً عن إتهامات الفلول ومحاولاتهم تقزيم ثورته ووصفها بأنها مُجرَّد (صرخة جياع) ، ، محاولين عبر نفي أبعادها السياسية والإنسانية والأخلاقية تبرئة أنفسهم من الفساد والظلم والقتل والتعذيب والتشريد وتضييق الأرزاق على من خالفوهم الرأي ، وظللنا نؤكِّدُ كلما سنحت الفُرصة أن الشعب السوداني حينما أضرم ثورة ديسمبر المجيدة لم تكن مُجمل مطالبه الحصول على رغيف الخبز والوضع المعيشي المعقول فقط ، بل كان ينشُد قبل ذلك إستعادة كرامتهُ المسلوبة ، والتمتُّع بنعمة العدالة والمساواة وسيادة دولة القانون ، وإقتلاع مؤسسية الدولة من براثن الشخوصية وزنزانة الحزب الواحد.
لكن (كرامة) الشعب السوداني وكبريائهِ يا حكومتنا الإنتقالية سيكون حدها الصبر على ما يمكن أن إحتمالهُ في نطاق الصعوبات الحياتيه إن لم تصل حدود إنتهاك الكرامة ، وذات الصعوبات المعيشية إن تنامى نطاقها ووصل حد (إهدار) كبرياء هذا الشعب ، فأعلموا أنها ستكون مطلباً (ثورياً) أخلاقياً نابعاً من مكانة الكرامة والكبرياء والشموخ في نفوس السودانيين ، ليس تعبيراً عن جوعٍ البطون ، بل تعبيراً عن (الإنتقام) لكرامةٍ مُهدرة ومبَّعثرة بين طوابير الخبز والبحث عن الوقود وغاز الطعام والعلاج والدواء والتعليم ، كل تلك حوجاتٌ في طيِّها مكامن (كرامة) هذا الشعب الذي أصبحت تتقاذفهُ الأقدار ما بين (مرمطة) كرامتهِ في الصفوف والطوابير التي يلِّجها ليحصل على إحتياجاته بحُر مالهِ ، وبين (مرمطة) كرامته بالقهر والتشريد والمطاردة والإذلال والدونية التي عاناها من نظام الإنقاذ البائد.
غير دقيقٌ كل تحليلٍ (منطقي) للأحداث يُراهِن على أن حالة الصبر على (الفقر والجوع) ستساوي أو توازي حالة الصبر على إهدار (الكرامة) والكبرياء من أجل الحصول على ما يسُدُ الرَّمق ، نصيحة أقدمها لوجه الله تعالى لحكومة الثورة الإنتقالية لا تختبروا صبر الشعب السوداني على إهدار وإهانة كرامته في مُستنقع الضوائق والأزمات المعيشية التي وصل حد المُعاناة فيها التعدي بالألفاظ النابية والضرب الذي أدى إلى الوفاة والأذى الجسيم في بعض المخابز ومحطات الوقود ، فمثلما رفعتُم من شان السلام السياسي و(تفرَّغتُم) لهُ بكافة الطاقات والإمكانيات ، عليكم أن تركضوا ركضاً وقبل أن تقع الواقعة نحو صون كرامة الشعب السوداني المُهدرة في معارك الغلاء والنُدرة وغياب الدولة عن الأسواق ومصادر معاش الناس.