نتحرك الآن ببطء لازدحام المسالك في العاصمة المقدسة نحو الحرم‘ وهاتفي لا يكف عن الرنين‘ فالأصدقاء يتكرمون بمتابعتنا‘ وعلى رأسهم العزيز الدكتور عثمان أبوزيد وزير التربية في الشمالية السابق‘ الذي يشغل موقعا قياديا في منظمة إقليمية هنا‘ إذ يدعوني والأسرة للتهيؤ في دارهم مشكورا. ها قد بلغنا الكعبة المشرفة يأخذنا سحر المكان وجلال الموقف ونطوف مع الجموع ونسعى‘ ثم نرتاح في الساحة الخارجية ونسيمات الفجر المنعشة تدغدغنا‘ وتطوف بذهني عمرة سابقة مع الخال ناصر خضر وأخرى مع العمة حواء بدري‘ ويقطع خيط الذكريات من ينادي برحلة للمدينة المنورة وهكذا استقر بجانبي في الحافلة الابن محمد ووالدته لنصل مقصدنا قبيل الشروق متخطين آبار علي‘ التي هيأها السلطان علي دينار تقربا لله وزلفى وهي الميقات المكاني لإحرام أهل المدينة والشام.
الأصدقاء والأهل في المدينة المنورة لا تنقطع دعواتهم لإكرامنا .. صديق نصر (موقة)‘ بوفائه لا يزال يذكر بالخير محاضراتي لهم في الجمعية الأدبية في دلقو الوسطى بل نظم قصيدة عصماء في شخصي‘ شمس الدين (جوقل) الذي يعرفني من الجرايد حين دعت الحاجة انتظرنا خارج المستشفى الذي يعمل فيه ذاكرا بطيبة أنه كان يتمنى رؤيتي وخدمتي‘ وكذا الدكتور مبارك جعفر حسن خليل ( أردوان)‘ الذي نجدنا وقت الشدة‘ وغيرهم من النبلاء الذين طوقوا أعناقنا بجمائلهم. أما أبناء أمنا دلقو وبناتها فعباراتي تقصر دون هاماتهم الشامخة وقاماتهم الفارعة.
عند الأصيل تدهم ابنتي العزيزة وصديقتي آلام النفاس فنسرع بها إلى المستشفى ونعسكر فيه غير أن الاستشاري البارع الفاتح يطلب منا الانصراف باعتبار الوقت مبكرا تاركين والدتها في معيتها‘ وبتنا على اتصال وثيق من البيت وهجرني النوم وتتصل ٱمها باكية ثم الدكتور الذي يخطرنا بارتفاع الحرارة والعسر مقترحا توليدها قيصريا فقلنا له ” اللي تشوفه” ويطير صوابي وفي دقائق كالدهر نصل ..الابن محمد وزوجها العزيز وأنا .. ونحن في جزع قاتل ونتابع الموقف العصيب وشقيقها بسام على الهاتف من الهند في إشفاق وبعد لحظات عصيبة جاء الفرج ولكنا رابطنا حتى خروجها من العناية الكثيفة بعون الرحمن.
مع انبلاج الصباح عمت البشرى لتنهال الاتصالات من كل فج وها هو عمي الأثير فتحي عباس يداعبنا من بورتسودان بأنه رغم ندرة العرسان سيدبر واحدا للمولودة ولكن والدها يقول في ثقة إنه سيبدأ تسجيل قائمة الراغبين منذ اللحظة!
عصرا ألقينا النظرة الأولى على المخلوق الجديد الذي حل بيننا .. صغيرة‘ بيضاء البشرة‘ فاحم شعرها السبيبي‘ اللطف باد على محياها ولكن ممنوع اللمس حتى تسلمناها بعد أسبوعين.
هكذا أحبتي أطلت على الدنيا لميس (أفندي) كما أداعبها‘ باكورة حفدتنا فوضعتها بحب على صدري‘ كما كان الشأن مع والدتها‘ ودفق محنة يدفعني لاحتضانها:
فيا أخا العذل لا تعجل بلائمة عليّ * فالحب سلطان له الغلب
هذا اليوم الثالث عشر من سبتمبر يحل عامها الأول‘ فيا صغيرتي أريدك أن تنشئي مكرمة في حضن الوطن فكفانا هجرا واغترابا‘ أتمنى حرصك على التعليم العالي الجيد والعصر للعلم والشأن للتكنولوجيا‘ وأن تكوني طيبة كأمك‘ خادمة لمجتمعك العريض فلا عاش من عاش لنفسه‘ أقبلي على ملذات الدنيا المباحة من الكافيار إلى الطاؤوس ولكن الأشهى القراصة والكسرة. بالمناسبة يجب أن تحذقي فن الطهي فأعرف أنه تم تطليق كثيرات لجهلهن بألف باء الطبخ بدعوى الطالبية فالطريق إلى قلب الرجل معدته‘ اقرئي الجميع من سيد قطب إلى ماركس ولكن الإسلام هو الساس والراس‘ اقتني عطور وأزياء شانيل وديور من الشانزليزيه في باريس’ ولكن شذى الدلكة والطلح ألطف والتوب جمال وجلال. من حقك أن تستهوي موسيقى البوب والاسبايس ولكن ” عديلة ” صديقي مكي أرق وكذا ” خال فاطنة ” الكابلي‘ التي علقت عليها ليلى المغربي بعد أن انتشت: أريتو كان خالنا كلنا!
يمكنك أن تكوني سيدة أعمال ناجحة ف 40% من الرساميل السعودية لحواء‘ ولكن المال وحده لا يخلق الهناء! انفتحي على كل الثقافات ولكن إياك أن تحبسي نفسك في فكر محدد أو خط واحد فلماذا تحصرين نفسك في زاوية حادة وأمامك دائرة كاملة من المرونة والحرية والانفتاح؟
أريدك ولجيلك انتزاع مزيد من مساحات التعليم والعمل والثروة‘ وأتطلع لكن واقعا أرحب مما عايشناه وأتمناك قيادية‘ بل رئيسة‘ أليست حسينة واجد وخالدة ضياء تتناوبان قيادة بنغلادش المسلمة‘ التي تحاصرها فيضانات المياه والمتاعب؟ أو لا تقود أورويو الأنيقة الفلبين؟ بل حتى في إفريقيا ألم تنتصر ألين جونسون على اللاعب الأشهر جورج ويا لترأس ليبيريا التي أسسها الزنوج العائدون من أمريكا – سموا عاصمتهم منروفيا تيمنا بالرئيس الأمريكي منرو- وكانت أسبق دول القارة للاستقلال وهي التي علمت نفسها في أمريكا بينما تعمل نادلة مطعم!
إن الحياة تؤخذ غلابا اختصارا يا لميس أتمناك توليفة متناغمة من الأصالة والمعاصرة‘ ثم أريدك أن ترتبطي بالبلد وأهلك.
والله أسأله أن يكلأ السودان بلطفه ويصون (استقراره) وكذا منطقتنا العظيمة وأسأله أن يمددك عمرا مديدا ورزقا رغيدا وهناء مقيما وعقبال 100 شمعة.
.. وبعد
كان هذا ما نشر في طي عامها الٱول في الصحافتين الورقية والإلكترونية. واليوم تستدير الذكرى وهي تشق طريقها بطموح وتفاؤل وثقة وقد غدت صبية متطلعة لغد ٱنضر.
قدما إلى العلا
صفحة ٱشواط العمر في فيس
سياتل