قبل أيام مضت شَرَع الأستاذ خضر سيد أحمد مكاوي في كتابة شذرات عن تاريخ مكتبة مروي (مروي بوكشوب) والأسرة المؤسسة لها، وذلك لسببين. السبب الأول، أنَّ الأستاذ خضر من جيل المثقفين السُّودانيين، الذين راجت في أوساطهم مأثورة أنَّ “القاهرة تكتب، وبيروت تطبع، والخرطوم تقرأ”؛ لأن جيلهم كان جيلاً قارئاً ومثقفاً ومهتماً بزيارة المكتبات التي كانت تمثل إحدى منصَّات التنوير المعرفي في السُّودان. والسبب الثاني، أنَّ آباء مؤسس مكتبة مروي، الأستاذ إسكندر فهمي جرجس، قد قضوا طرفاً من حياتهم في قرية قنتي عند منحنى النيل في الولاية الشمالية، القرية التي نشأ فيها الأستاذ خضر، وعاش سنوات صباه الباكرة، وبعد أن بدأ حياته العملية في مجال التدريس ثم التجارة الحُرةظل مشاركاً فاعلاً في تطوير شأنها العام.
وُلِدَ إسكندر في قرية قنتي عام 1930، ووقتها كان جده لأبيه جرجس منقريوس من وجهاء القرية، بحكم أنه كان يملك أراضي زراعية في السواقي 143و166 الشرقية، وله إسهامات مجتمعية مقدرة، ووالده فهمي كان صاحب منزلٍ فاخرٍ بين حلة البيضاب وحلة ود أرباب، ومحلٍ تجاريٍ عامرٍ بعروض التجارة المتنوعة، وجنائن من النخيل والفاكهة. وإلى جوار أسرة جرجس منقريوس كانت توجد أسرة جرجس اسطفنوس التي كانت تملك السواقي ٥٩ ،١٥٢ و١٥٩، وتقيم منازلها في الساقية 59 على درب التُرك (التِحِت).
بدأ إسكندر تعليمه الأولي بخلوة الشيخ مصطفى سيد أحمد بابوش بحصاية العمدة، وبعد انتقال الأسرة إلى أمدرمان، درس إسكندر الكُتاب، والوسطى، والثانوي بالمدرسة الارسالية الأمريكية التجارية بأم درمان، وقد زامل في مراحله التعليمية نخبة من المتعلمين، أمثال أمين أبوسنينة الذي عمل وزيراً في عهد حكومة مايو 1969-1985 وتقريباً في بداية أربعينيات القرن العشرين،
آثرت أسرتا جرجس منقريوس وجرجس اسطفنوس الانتقال إلى العاصمة الخرطوم، فباع جرجس اسطفنوس سواقيه الثلاث (59 و152 و159) إلى السيد محجوب بادي والعمدة محمد أحمد أبوشوك، ولاحقاً اشترى السيد علي الميرغني نصيب بنات جرجس منقريوس في (السواقي 143 و166)، واشترى الأستاذ الطاهر الطيب حجر نصيب الأولاد.
إسكندر فهمي ومكتبة السُّودان (Sudan bookshop)
بعد أن أكمل مراحله التعليمية، التحق إسكندر فهمي بمكتبة السُّودان، التي أُسست عام1902 كشركة غير ربحية، يباع الكتاب فيها بسعر الغلاف، لخدمة طلبة كلية غردون التذكارية وجمهور القارئين. وكانت تدار بواسطة إدارة ثلاثية، تتكون من مدير شركة سودان ماركنتايل (Sudan Mercantile)، ومدير شركة ميتشل كوتس (Mitchell Coates)، ومدير شركة جلتلي هانكي (Gellatly Hankey)، وكان رئيس مجلس إدارتها من الكنيسة الانجليكانية في الخرطوم. وبعد هذه الإدارة الثلاثية آلت ملكيتها وإدارتها إلى شركة مصر للطيران، ثم إلى يوسف تادروس عام 1966م، وأخيراً إلى الطيب محمد عبد الرحمن، الذي أُغلقت المكتبة في عهده. ويقول أحد الطلبة الذين عملوا بمكتبة السُّودان: في أواخر الستينيات وإبان العطلة السنوية في مرحلة دراستي الثانوية، عملتُ بائعاً في سودان بوكشوب بتشجيع من والدي، وكان صاحب المكتبة يوسف تادروس ومديرها العام إسكندر فهمي، “الذي انتقل من سودان بوكشوب فيما بعد ليؤسس مكتبة مروي الشهيرة.”
ثم يمضي الطالب ويقول “كنت أتقاضى راتباً شهرياً يبلغ العشرين جنيهاً، ويا له من مبلغ في ذاك الزمن بين يديّ صبي دون العشرين، إذ كان يومها موظفو الحكومة غير الجامعيين لا يحلمون بهذا الراتب..
كنا نعمل على فترتين من التاسعة صباحاً حتى الواحدة والنصف ظهراً، ومن الخامسة عصراً حتى الثامنة والنصف مساءً. وإلى جانب الكسب المادي يذكر الطالب قائلاً: “لم تقتصر سعادتي على الراتب فحسب، فأنا مدين لهذه الفترة الطيبة بعشرات، بل مئات الكتب، التي التهمتها اقتناصاً من الزمن الذي كانت فيه المكتبة تخلو من الرواد والزبائن.” وإلى جانب بيع الكتب وتوزيعها كانت سودان بوكشوب وكيلاً حصرياً لتوزيع الصحف الإنجليزية اليومية، التي تُنقل إليها على متن شركة الخطوط البريطانية، لذلك كان الدبلوماسيون الغربيون يتوافدون على المكتبة في الأمسيات لاقتناء هذه الصحف.
وعن مجلس مديرها العام إسكندر فهمي، فيقول الطالب: وكان مجلس إسكندر ” في الأمسيات أشبه بالمنتدى الأدبي، إذ يتحلق حوله كبار الساسة والدبلوماسيين والأدباء… قامات باسقة، أمثال جمال محمد أحمد، وهاشم ضيف الله، وبشير محمد سعيد، وعبد الله الطيب، وعمر محمد عثمان، وأحمد محمد ياسين، وخضر حمد، ومنير صالح، وإسماعيل العتباني، وحسن نجيلة، وسيد أحمد نقد الله، وسر الختم الخليفة، ومولانا هنري رياض، ومولانا دفع الله الرضي وغيرهم، ولا تجدني مبالغاً إذا قلت إن استراقي السمع من ذلك المجلس اليومي الوضيء كان كفيلاً بمنحي درجة علمية رفيعة.”
إسكندر فهمي ومكتبة مروي (Marawi Bookshop)
في نهاية الستينيات من القرن العشرين غادر إسكندر فهمي مكتبة السُّودان بعد أن اكتسب خبرة واسعة في سوق الكتب، وأسس شبكة من العلاقات الاجتماعية مع صفوة المجتمع والناشرين وجمهور القارئين والباحثين. وبناءً على هذه الخبرة المتراكمة أسس مكتبته في عقار مستأجر من الجالية اليونانية، يقع في ناصية شارع البرلمان بالسوق الإفرنجي في الخرطوم، وأطلق عليها اسم “مكتبة مروي” أو مروي بوكشوب، وفاءً للمدينة التي كانت تمثل حاضرة المركز الإداري، الذي كانت تتبع له القرية (قنتي)، التي وُلِد فيها، وعاش طرفاً من سنوات عمره الباكرة.
وفي مطلع السبعينيات سطع نجم مكتبة مروي في فضاء مدينة الخرطوم، وأصبحت المكتبة الأولى لجمهور القارئين والباحثين والطلبة بمراحلهم التعليمية المختلفة، تجد في رفوفها المرتبة الروايات العربية والروايات الأجنبية المترجمة، وكتب الأدب والرحلات، والاقتصاد والسياسة، والدين والقانون، والفلسفة وعلم النفس، والتاريخ والجغرافية، وعلم الاجتماع والفلكلور، ودواوين الشعر والمدائح، وتاريخ السُّودان القديم والوسيط والحديث، والعلوم التطبيقية، والعلوم الرياضية، وسير الأعلام والتراجم، والقواميس والمعاجم؛ والأدوات المكتبية والمدرسية بأصنافها المتعددة.
وهكذا كانت مكتبة مروي مكتبة شاملة، ولا تكتمل صورتها الشاملة إلا بالنظر إلى الدور الذي كان يقوم به مديرها العام إسكندر فهمي جرجس، الذي كان إنساناً فريداً في عصره، ولذلك كتب عنه عثمان فضل الله عندما سمع بنبأ وفاته عام 2005م، راثياً: “شكرا حزيناً لكم، فالخرطوم مكتوب عليها النزف يوماتي، ومصلوب في وجهها الفرح، العم إسكندر فهمي، لم يكن إنساناً وكفى، بل كان حافظاً لتاريخ السُّودان ومحباً له، يجمع بين أصالة أهل مروي، وحضور ناس الخرطوم؛ لا تدخل عليه في صالونه أعلى المكتبة إلا واستقبلك باسماً، ويصرُّ عليك أن تشرب فنجاناً من القهوة، التي يصنعها بنفسه، ثم يبدأ حواره معك في الادب والسياسة، لا تمله ولا تمل ضيوفه، الذين ينتقلون بك من جيل إلى آخر، ومن موضوع إلى آخر، تعيش يومك بين مساجلات البرلمان الأول، وحواري الخرطوم القديمة، وأزقة المسالمة في أمدرمان، وشعر عتيق وسيد عبد العزيز، وعنتريات الرشيد الطاهر بكر. كان إسكندر تاريخاً متحركاً، افتقدناه ونحن في أمسَّ الحاجة لأمثاله في السُّودان، الذي أكلت جسده الجهويات، وانهكته الحروب. ” كما كتب عنه عادل أحمد إبراهيم في إهداء كتابه عن “النفط والصراع السياسي في السُّودان”: “إلى روح المرحوم إسكندر فهمي الذي أسهم في نشر المعرفة والثقافة في بلادنا، لقد كانت مكتبة مروي التي أسسها المرحوم مركزاً للإشعاع الثقافي في السُّودان، وظل يرعاها كشجرة وأرفة الظلال حتى فارق دنيانا”.
وبعد سبع سنوات من وفاة إسكندر، بدأت مكتبة مروي تواجه شبح الإغلاق، إذ تراجعت القوة الشرائية وانحسر الطلب على الكتب، وخُفِّضت القوة العاملة بنسبة 50%، وأوقفت إدارة المكتبة استيراد الكتب نسبة لتراجع الطلب عليها، مع انخفاض سعر الجنيه السُّوداني مقابل الدولار الأمريكي. وبعدها تعرضت المكتبة إلى نزاع قضائي لإخلاء المقر الذي نشأت فيه،
وأخيراً أجبرت قوات من الشرطة إدارة المكتبة على إخلاء المقر في 11 فبراير 2017م، تنفيذًا لحكمٍ قضائيٍ بنزع العقار من “الجالية اليونانية” في الخرطوم.
فصلٌ محزنٌ في تاريخٍ تليدٍ
هكذا كانت نهاية هذا الفصل المحزن في تاريخ مكتبة مروي التليد، فهي نهاية أشبه بنهاية مكتبة السُّودان (سودان بوكشوب) التي أغلقت أبوابها في الفترة نفسها، بعد عطاءٍ منبسطٍ في مجال التنوير الثقافي والمعرفي يربو على مئة عامٍ. ولذلك نعاها السفير جمال محمد إبراهيم بقوله: “ذهبتُ إلى “مكتبة مروي” لأراجع مبيعات روايتي [دفاتر القبطيّ الأخير]، فراعني أنّ المكتبة نفسها لم تعد في مكانها، بل علمتُ أنه تمَّ طرد المكتبة طرداً مبيناً. رأيت أكداس الكتب ملقاة أمام شارع البرلمان، ومقر المكتبة مغلق.” وإنَّ شهادة وفاتها قد صدرت دون تقدير للأربعة عقود ونيف التي قضتها في رفع الوعي الثقافي والتنوير المعرفي. ثم استنكر جمال، سائلاً: “أبلغَ بنا الحال أن نعامل المكتبات وكأنها أمكنة لنشر الرذيلة وإشاعة الفواحش؟ أيّ مدينة هذه التي تغلق المكتبات، وتقذف بالكتب إلى قارعة الطريق؟ لو ذكّرك ذلك الفعل وزير الدعاية عند “هتلر” الذي تحسّس مسدسه أمام المثقفين، لهان الأمر، ولكن تعيد الصورة إلى ذاكرتك، فعل “هولاكو” بمكتبات بغداد، قبل قرون بعيدة.” صدق جمال محمد إبراهيم، إنَّ الحكومات التي لا تقدر قيمة الكتاب، ولا تثمن دور المكتبات، وتستحقر عطاء العلماء والباحثين لا يمكن أن تكون صاحبة رؤية استشرافية وبرنامج إصلاحي في عصر قوامه المعرفة وتقنياتها واقتصادها.
وفي الختام، أرفع النداء إلى وزارة الثقافة للاهتمام بما تبقي من إرث مكتبة مروي العريقة، بمساعدة ورثة المرحوم إسكندر فهمي جرجس لإحياء سيرة مروي الأولى في موقع جديد يليق برسالتها السامية.