نشرت صحيفة إيلاف الاقتصادية مقالا مهماً كتبه كل من أستاذنا الدكتور علي محمد الحسن والصديق الدكتور حسب الرسول عباس البشير، وهما من أبرز الأكاديميين الذين عرفتهم جامعة الخرطوم وغيرها من الجامعات والمؤسسات، ومن ذوي المعرفة والخبرة بعلل الاقتصاد السوداني ومشكلاته.
وأعتقد أن المقال طرح قضية مهمة لا يمكن تجاهلها باي حال، ونحن على مشارف المؤتمر الاقتصادي القومي الذي سينعقد في الفترة (26- 28 سبتمبر 2020م) هي قضية “التوافق السياسي المجتمعي”، وضرورة إعطائه اولوية.
قد جاء عنوان المقال كتساؤل:(المؤتمر الاقتصادي؟؟ أم التوافق السياسي المجتمعي أولاً؟؟). وهذا يعني أن تحقيق التوافق السياسي المجتمعي في رأيهما كان ينبغي أن يسبق عقد المؤتمر الاقتصادي القومي.
في رأيي أنه وعلى الرغم من اهمية وضرورة السعي إلى تحقيق التوافق السياسي المجتمعي المنشود، إلا أنه لا يمكن إغفال صعوبة تحقيقه بصورة مرضية وبين جميع مكونات الحاضنة السياسية للحكومة الانتقالية والقوى السياسية المؤثرة بما يفضي لاتفاق حول برنامج اقتصادي و/أو تنفيذه بشكل يعالج جميع القضايا الاقتصادية العالقة، وبالصورة المبتغاة، وذلك لتباين المنطلقات والرؤى بين تلك القوى تبايناً كبيراً، والخلافات والتجاذبات كما أسماها المقال والصراعات والانقسامات التي اتصفت بها الفترة الماضية منذ تشكيل الحكومة، ولن تسلم منها الفترة الانتقالية بأكملها.
يضاف إلى القوى الحاضنة السياسية تلك القوى السياسية التي ستشارك في إدارة الفترة الانتقالية نتيجة اتفاقيات السلام. فرغم ما يقال إن تلك القوى جزء من قوى الحرية والتغيير هناك إرهاصات مما رشح من تصريحات تشي بمزيد من الخلافات والتجاذبات؛ مما قد يعرقل أو يعقد عملية التوافق بالصورة التي يريدها كاتبا المقال لتساعد على إعداد وتنفيذ برنامج إصلاح اقتصادي متكامل يحوز الرضا من كل الأطراف خلال فترة الانتقال القصيرة.
وليس هذا الذي نقول من قبيل التشاؤم، ولكنه قراءة لواقع سياسي متشابك ومعقد نعايشه، وتعمل في إطاره حكومة الفترة الانتقالية. ولهذا لا أرى إرجاء عقد المؤتمر الاقتصادي كخطوة للتوصل لبرنامج اقتصادي قابل للتطبيق لحين تحقيق التوافق السياسي المجتمعي كما اشار المقال؛ لأن هذه مسالة شائكة وصعبة وقد تطول خلال عمر الحكومة الانتقالية القصير.
ولأن إرجاء التوصل لبرنامج اقتصادي بقدر معقول من التوافق يعدّ في غاية الأهمية في ضوء المشكلات الاقتصادية المتفاقمة والضائقة المعيشية الماثلة. ومن ناحية أخرى لن يتاتى للحكومة الانتقالية الحصول على الدعم والمعونات الخارجية التي تحتاج إليها البلاد في حالة غياب برنامج اقتصادي محدد ومعتمد تعمل بموجبه.
وبناءً على ما تقدم أعتقد أن تحقيق قدر “معقول” من التوافق السياسي المجتمعي حول البرنامج الاقتصادي لحكومة الفترة الانتقالية ممكن من خلال أحد البديلين التاليين او كليهما:
أولا: ان تسعى الحكومة إلى تسويق برنامجها الذي ستعده في ضوء توصيات المؤتمر الاقتصادي القومي وعمل “تفاهمات” حوله مع القوى السياسية والمجتمعية المختلفة لتحقيق قدر “مناسب” من التوافق يعينها في تنفيذه خلال فترة عمرها القصير.
ثانيا: ان يتم تشكيل المجلس التشريعي باسرع فرصة ليكون حاميا للحكومة من تجاذبات وخلافات القوى السياسية، ويكون هو وسيلتها لعرض البرنامج والتوافق حوله واعتماده والحصول على الدعم اللازم من المجلس التشريعي لتنفيذه.
في تقديري أنه لن يتأتى “إزالة التعارض” تماماً لتحقيق توافق سياسي مجتمعي كامل قبل عقد المؤتمر الاقتصادي، ولهذا لا أرى سبباً وجيهاً لما ورد في المقال (أنه لا جدوى للمؤتمر الاقتصادي في ظل عدم إزالة التعارض بين اطراف الحكم الانتقالي وخاصة في مسائل جوهرية تمس عصب الموازنة واسس ادارة الاقتصاد القومي) وربما الأكثر احتمالاً والأوفق في رأيي في ضوء الظروف الماثلة تحقيق ” حد أدنى” من التوافق حول هذه المسائل الجوهرية المشار اليها في المقال بأحد البديلين الوارد ذكرهما اعلاه..
اعتقد أن إحدى إشكاليات المؤتمر الاقتصادي القومي هي أن سقف الطموحات لما سيتمخض عنه يبدو عاليا بأكثر مما يجب، وذلك بسبب بؤس الحالة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد والآمال العريضة المعقودة على المؤتمر لمعالجة الأوضاع المتردية، وكذلك في ضوء أثر تصريحات كثير من المسؤولين والناشطين الذين يشاركون في الإعداد للمؤتمر وفيها درجة عالية من التفاؤل عن المخرجات المتوقعة منه. ومع ذلك أرى ان عقد المؤتمر سيتيح فرصة الحوار بين كثير من المكونات السياسية والمجتمعية وأن عقده في الظروف الحالية يعتبر خطوة جيدة، بالرغم من أن توصياته ستكون “مؤشرات” تساعد في إعداد برنامج أقتصادي مناسب أكثر منها حلولا لكل المشكلات الإقتصادية التي تعاني منها البلاد.
في رأيي كذلك أنه حتى لو تم “توافق سياسي مجتمعي” بالصورة التي يطمح لها كاتبا المقال وتم إعداد برنامج اقتصادي فإنه تنفيذ ذلك البرنامج ستعيقه عقبة أخرى كؤود ألا وهي ضعف هياكل الدولة ومؤسساتها واجهزتها والحاجة الماسة والعاجلة للإصلاح المؤسسي الذي ناقشناه ودعونا له في مقال سابق بصحيفة التحرير. فكما يحتاج البرنامج الإقتصادي لقدر مناسب من التوافق السياسي المجتمعي حول المسائل الجوهرية التي ترتبط بأسس الموازنة وإدارة الاقتصاد القومي فإن الإصلاح المؤسسي كذلك سيحتاج أيضا لذات القدر من التوافق والإتفاق حول أهدافه ونطاقه وبرامج تطبيقه في أجهزة الدولة بجميع مستويات الحكم والمؤسسات في كافة القطاعات الانتاجية والخدمية وتحديد أساليب ووسائل تنفيذه لتحقيق الفعالية والكفاءة في الأداء.
*استشاري الإدارة والتطوير المهني