رغم جنوح مسارات النظام الديموقراطي الليبرالي في إطار تسيير الدولة إدارياً وإقتصادياً وسياسياً نحو (إبتعاد) الدولة بشكلها الرسمي عن كافة المحاور المُحرِّكة لمُجمل الأنشطة ، ما عدا بعض القطاعات الحسَّاسة والمحصور معظمها في النطاقات الأمنية والدفاعية والدبلوماسية وما تعلَّق بالسياسيات والتوجهات الإستراتيجية العامة ، والتي غالباً ما يتم إعدادها عبر الخطط الإستراتيجية بوسائل عُدة أهمها النشاطات البرلمانية والمؤتمرات المُتخصصة والهيئات الإستشارية ، إلا أنني أجد نفسي مُنحازاً لفكرة أن كل دولة لها ظروفها وخصوصياتها التي تكفُل لها فُرصة (الإنعتاق) من بعض المضامين اللبرالية التي إن طٌبقت عليها بحذافيرها ستكون إضرارها أكثر من منافعها ، على سبيل المثال رفع دعم الدولة عن الكثير من المُنتجات الضرورية يُعتبر على مستوى الفلسفة اللبرالية الرأسمالية أمراً طبيعياً ، بل وضرورياً في نظرية تمكين الدولة من تحريك ودعم مشاريع التنمية المتوازنة والمُستدامة ، ومن ذات المنظور نفسهُ فإن رفع الدولة يدها عن دعم السلع وإمتناعها عن مُنافسة القطاع الخاص على مستوى الحركة العامة للإقتصاد الوطني هي (محمده) تُحسب لها ، خصوصاً إذا راجعنا مجموعة الفُرص التي ستحصدها لصالح تحديات الإستفادة القصوى من الموارد وحماية الإقتصاد الكُلي من التشوَّهات التي تأتي في مقدمتها الهوة الشاسعة بين مخزوناتها الحقيقية من الذهب والعُملات الصعبة وبين ما يتم إصداره من نقد محلي ، هذا فضلاً عن إرتفاع نسبة التضخُم وآثارها المعلومة ، إضافةً إلى إختلال ميزان الإيرادات والمصروفات ومُحصلات العجز في الموازنات العامة.
لكن حالة الفقر العام وإنخفاض مستوى الدخول في بلادنا (بحسب القياسات العالمية) ، يؤكِّد لكل مُكابِر مثول الحالة الإستثنائية التي تُتيح لنا أن (نسودِن) منهجاً ليبرالياً رأسمالياً يستطيع عبر مواصفاتهُ الخاصة إستيعاب (إنخفاض قُدرة) أغلبية شعبنا على تحمُّل التطبيق المُطلق والجزافي (لإبتعاد) الدولة عن المُساهمة (بدعم) بعض السلع الإستراتيجية والمؤثِّرة ، على سبيل المثال فإن قطاع النقل الداخلي في العاصمة القومية بإعتبارها أعلى مناطق البلاد كثافةً سُكانية ، يستحق أن تحتكر الدولة 70 % من طاقاته على الأقل ، حتى تستطيع أن تتحكًّم في الأزمات ، فضلاً عن حماية المواطن من جشع القطاع الخاص ، إضافةً إلى (السيطرة) بنسبة عالية على حركة توزيع الوقود ، كذلك وتجاوزاً لفلسفة الخصخصة في المنهج الرأسمالي ولذات الظرف الخاص الذي يُعانيه الشعب السوداني وجب على الدولة أن تُسيطر على ما لا يقل عن 90 % من إنتاج الخُبز خصوصاً في العاصمة والمدن الولائية الكُبرى وتحويلها من منظومات بيع بالتجزئة مُتفرِّقة ومُتفاوتة في إمكانياتها الإنتاجية إلى (صناعة كُبرى) تستوعب الكثير من الأيدي العاملة ، لذات الأسباب المذكورة سابقاً في أمر الوقود (الحماية من جشع القطاع الخاص – التحكُّم في الأزمات – السيطرة على حركة توزيع الدقيق) ، وفوق كل هذا وذاك نُضيف إلى ذلك (محمدة) إستراتيجية كُبرى تتمثَّل في (حماية النظام الديموقراطي) من إمكانية السقوط بفعل الأزمات الحادة التي يمكن أن يُنظِّمها القطاع الخاص في مجالي النقل والخُبز كقطاعين حيَّويين يستطيعان بواسطة الإضراب والإمتناع عن العمل إسقاط أعتى الحكومات.