في جلسة محاكمة مدبري إنقلاب الإنقاذ الآخيرة، لم أتمالك نفسي أن أقول ‹..اللهم لا شماتة› حين رأيتُ صورة ‹المشير المخلوع› عمر البشير، و‹شاويش شرطة المحاكم› يشيرُ إليه بسبابته، بطريقةٍ صارِمة حاسِمة، ‹ويأمرُه› بالجلوس ‹من سُكات› دون إحداث أيِّ إزعاج، أو فوضى، ويناديه ب (يا مسجون) أو (يا متهم) لا فرق!! لقد أعجبتني مهنية الشاويش وصرامتُه في الحق طبعاً، ولكن لفتت نظري صورةُ ‹المشير› التي كانت بائسةً وكالحةً بالفعل..فوجهُه كان كئيباً، وعيناه واقعتان، وأسنانه مُصَفِّـرة، و‹هِتمَة›، وتقاطيعه ممتقِعة، وشاربه غير مصبوغ، مثلما كان يفعل به وهو على سُدة الحكم آمِراً ناهياً، أو وهو على منصة مخاطبة الجماهير والناس يتأهبون لسماعه ويتهامسون، والفرقةُ الموسيقية ‹تُحَكحِك› آلاتِها، وتتلمظ، لتقديم فاصلٍ راقصٍ من عَرضَة الرئيس المشهورة، المُحبَّبة إلى رُكبتيه !!
لقد حاول ‹الرئيس المشير المخلوع› في تلك الصورة أقصى جهدِه أن يبدوَ متماسكاً، فاستجدى إحدى (تفسيخات) أسنانِه بصعوبة ليبدوَ باسماً وغيرَ مهتم، ولكنها جاءت ‹تفسيخةً› مُرهَقةً، ومُتَكلَّفة، لشخصٍ باكٍ حزين، عيناه دامعتان، وهو يحاول أن يبتسم للمُعزِّين بالقوة !!
سبحان اللهِ المُعِز المُذِل !!
ثم أن المشير المخلوع كان يرفع سبابته إلى أعلى، وكأنه كان يقول ‹الله أكبر› مثلما كان يفعل، وتفعل هتِّيفتُه له، في التجمعات، والإحتفالات، وحلقات العَرضة، وحين الإنتشاء فيها!! أيضاً كانت تلك حركةً خائرةً حزينةً، خاصةً حين كان يحاولُ جاهداً أن يُبقِي السبابة مرفوعةً، وفي نفس الوقت يستمع بمسكنة إلى ‹أوامر› الشاويش (وينفِّذ) توجيهاته له بلهجته الآمِرة الرادِعة تلك !!
• بكل أسف، وطوال سني حكمه، كان الرئيس المخلوع (دلدولاً) فاسداً في أيدي الإسلامويين، كما وصفه جعفر نميري بالضبط..وفي المرات القليلة التي حاول فيها أن (يتحلحل) من براثنهم خنقوه، وحاصروه، وجوَّعوه، وألَّبوا عليه، ثم توعَّدوه، وخوَّفوه بتسليمه إلى محكمة الجنايات الدولية، فرجع إلى بيت طاعتهم ذليلاً عاجزاً، ثم تخلَّوا عنه، ورمَوه عظماً مكدوداً رميماً، حين لم يعُد شيئاً، وهكذا يفعلون !!
• لقد أظهرت محاكمة البشير، حتى الآن، أنه كان لصاً كبيراً برُتبة مُشير، وأنه كان يتصرف كتاجر عُملة تماماً، مثلما كان يفعل قبل سطوِه على الحُكم..والمحكومية التي يقضيها الآن هي بسبب إدانته في خيانة أمانة الشعب، وإحتياز أموال يملكُها الشعب السوداني، والتصرُّف فيها بطريقة غير مشروعة، وخارج القنوات الرسمية، على طريقة العطايا والهِبات، كما في نهج السلاطين والملوك..وحين يظهر البشير منكسراً ذليلاً من الآن وصاعداً، فلأنه كان جسداً منتحَلاً من طينةٍ فاسدة، تسكنه نفسٌ متواضعة الهمة، وعديمة الكرامة، بكل أسف !!
• في الأيام الأولى، وحين بدأت محاكمة المخلوع، كان يتجمع خارج قاعة المحكمة بعضُ الزلنطحية والهِتِّيفة من المنتفعين، ويهتفون بحياته، ويُقسِمون بعطاياه أنهم سيفدونه بالروحِ وبالدم، ووقتها كان المخلوع لم يزل يلبس الجلاليب البيضاء الناصعة، ويتلفّع بالشالات السويسرية الفاخرة، ويتعطر، ويعتني بشاربه ‹وسَكسوكتِه› ويصبِّغُهما، وربما حمل في يمناه عصا الصولجان.. وأما الآن، وبعدما ألبسته محكوميتُه بردلوبة دمورية خاصة بالمساجين، فلقد تلاشى الهتِّيفةُ والمنتفعون من محيط المحكمة، وأصبح محامو الإختلاسات والإغتصابات هم من يهتفُ له من داخل المحكمة، وبلا وقار، وبعد حين، وعندما يلتفُّ حبلُ المشنقة حول عُنقة فربما لن يُسمعَ من يهتف داخل المحكمة ذاتِها إلا حاجبُها، بصوته العالي المعروف، منادياً: محكماااااة !!