البحث عن السلام في السودان قضية قديمة متجددة لازمت جميع أنظمة الحكم منذ الاستقلال، وظلت تشغل بال كل مواطن؛ بوصفه مدخلاً أساسياً للاستقرار والتنمية.
ومع تعدد وتنوع
ما وقع من اتفاقيات سلام في ظل الحكومات المتتابعة، فإنها لم تحقق الأهداف
والمقاصد المنشودة.
ومع أن الحركات المسلحة التي وقعت على اتفاق جوبا قامت
بدور مقدر في الضغط على النظام البائد، والمشاركة المباشرة من بعضها في المظاهرات
والاعتصامات التي أسقطت النظام، إلا أنها لم تبارح مكانها، واستمرت في مقاطعتها للحكومة
الانتقالية، ليبدأ السودان فصلاً جديداً في البحث عن السلام.
لأهمية السلام في تحقيق الوحدة والاستقرار، وإنفاذ
الفترة الانتقالية، أفردت الوثيقة الدستورية مجموعة من الأحكام حول الموضوع، ونصّت
المادة 8 (1) من الوثيقة الدستورية على العمل على تحقيق السلام العادل الشامل،
وإنهاء الحرب، ومعالجة جذور المشكلة السودانية، ومعالجة آثارها، مع الوضع في الحسبان
أخذ التدابير التفضيلية للمناطق المتضررة من الحرب، والمناطق الأقل نمواً،
والمجموعات الأكثر تضرراً.
كما أفردت
الوثيقة الدستورية أيضاً كامل الفصل الخامس عشر مفصلاً مطلوبات السلام في كل يتصل
بالقضايا والترتيبات الأمنية، والإجراءات ذات الصلة؛ لضمان الالتزام بإنفاذ هذه
المهمة الوطنية.
إن اتفاق جوبا مرحب به من الناحية المبدئية ويشكر
أطرافها، وكذلك كل من حكومة جنوب السودان الدولة المستضيفة للمفاوضات، والدول
الشقيقة والصديقة التي دعمت وساهمت ما تم من خطوات نحو السلام.
ومع ما تحقق من إيجابيات، فهناك كثير من المثالب في
بنود الاتفاق حول تقسيم السلطة والثروة، يتحدث عنها القاصي والداني، وتنذر بفتح
أبواب جديدة للحروب والنزاعات تضعف بنية الوحدة الوطنية، وهو أمر يتطلب المراجعة
والمعالجة؛ لضمان مسيرة السلام والاستقرار.
هذا المقال محاولة للوقوف على ما صاحب الاتفاق من
تجاوزات دستورية؛ لتسليط الضوء، بغرض استصحابها حتى لا تشكّل عقبة في طريق تنفيذ الاتفاق
ما لم يتم تداركها ومعالجتها.
إن التحدي
الأكبر الذي يواجه تنفيذ الاتفاق هو مخالفة مجموعة من أحكامه لأحكام الوثيقة
الدستورية لسنة 2019م، التي تمثل القانون الأعلى للدولة، وتسود أحكامها على كل
قانون أو قرار أو اتفاق يصدر مخالفاً لها، وهو المبدأ الوارد في نصّ المادة (3) التي
تقرأ (الوثيقة الدستورية هي القانون الأعلى بالبلاد، وتسود أحكامها على جميع
القوانين، ويلغي أو يعدل من أحكام القوانين ما يتعارض مع أحكام هذه الوثيقة
الدستورية بالقدر الذي يزيل التعارض). هذا وقد تعددت المخالفات لهذا النص في عدد
من أحكام الاتفاق تتلخص في الآتي:
أولاً: كان من الواجب تشكيل
مفوضية السلام المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية مع بداية الفترة الانتقالية،
لتقوم بمهمتها في إدارة ملف السلام تحت إشراف مجلس الوزراء بموجب صلاحياتها الواردة
في المادة (16) (2) و (16) (3) التي تتضمن العمل على إيقاف الحروب والنزاعات،
وبناء السلام، وابتدار مشروعات القوانين، ومشروع الموازنة العامة للدولة،
والمعاهدات الدولية والاتفاقيات الثنائية والمتعددة الأطراف.
في الوقت ذاته، كان يجب أن يقتصر دور مجلس السيادة على
صلاحياتها الواردة في المادة (12) (1) (س) من الوثيقة الدستورية، وهو رعاية عملية
السلام، ولكن ما حدث هو عدم إنشاء مفوضية السلام، وتبني مجلس السيادة ملف السلام في
تجاوز واضح للنص الوارد بالوثيقة الدستورية.
وهذا أمر كثر
الحديث حوله منذ بداية جولات المفاوضا، واتصل بخلافات حول إدارة الملف بين مجلسي
السيادة والوزراء تم تجاوزه رغم ما في ذلك من مخالفة لأحكام الوثيقة الدستورية.
ثانياً:الاتفاق الذي تم
تسميته بـ (الاتفاق النهائي للسلام) لا يمكن تسميته بهذا المسمى في الوقت الذي غاب
عنه حركات مسلحة أساسية في مقدمتها الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة عبد
العزيز الحلو، وحركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور، وعدد من الحركات
التي لا يستهان بها، إضافة إلى غياب مجموعات من أصحاب المصلحة الحقيقيين من النازحين
واللاجئين، وهذا ما يجعل التسمية في غير محلها، خصوصاً أن الحكومة لا تزال تتواصل
مع الحركات التي لم تكن طرفاً في الاتفاق لإلحاقها بالمفاوضات.
ثالثاً: من السلبيات
التي صاحبت الاتفاق فتح الباب أمام أطراف مطلبية لا صلة مباشرة لها بقضية الحرب والسلام،
وهي قضايا مطلبية لا تدخل ضمن تصنيف قضية الحرب والسلام المنصوص عليها في الوثيقة
الدستورية، فيما سمي بمسارات الشرق والشمال والوسط، إضافة الى أنها جبهات لا تملك
تفويضاً شعبياً، ولم تتجاوز مطالبها ما ظل ينادي بها سكان تلك الأقاليم المقيمين فيها،
والمكتوين بشكل مباشر بما أصاب مناطقهم من تهميش، وفضلوا العيش في سلام، مع
استمرار مطالبهم ضد الحكومة بكل الطرق المدنية.
هذا مع العلم بأن من يدعون قيادة المسارات لا تتجاوز
أحلامهم حجز مقعد في السلطة عبر محاصصات السلطة في الاتفاق، وليس أدل على ذلك من
رحيل كل من التوم هجو وجاكومى من قادة المسارات من حركة إلى أخرى، ربما طمعاً في
أن يتاح لهما وضع أفضل في المحاصصات المقبلة.
رابعاً: النصّ
على تمديد الفترة الانتقالية لتبدأ في الثالث من أكتوبر 2020م تاريخ توقيع الاتفاق؛
بما يخالف المادة (7) (1) من الوثيقة الدستورية التي حددت مدة الفترة الانتقالية لتكون
تسعة وثلاثين شهراً ميلادياً تسري من تاريخ التوقيع على الوثيقة الدستورية، وهو
اليوم السابع عشر من شهر أغسطس 2019م . وتطبيق هذا النصّ بتعديل تاريخ الفترة
الانتقالية يقود بدوره إلى مخالفة دستورية أخرى هو استمرار رئيس وأعضاء مجلس
السيادة لفترة تتجاوز النص الدستوري الوارد بالمادة (11) (3) من الوثيقة التي تقرأ
(يرأس مجلس السيادة في الواحد والعشرين شهراً الأولى للفترة الانتقالية من يختاره
الأعضاء العسكريون، ويرأسه في الثمانية عشر شهراَ المتبقية من الفترة الانتقالية التي
تبدأ في السابع عشر من مايو 2021م عضو مدني يختاره الأعضاء الخمسة المدنيون الذين
اختارتهم قوى إعلان الحرية والتغيير).
خامساً: استثناء
الموقعين والمشاركين وولاة أو حكام الأقاليم من أحكام المادة (20) من الوثيقة
الدستورية التي تنصّ على (لا يحق لرئيس وأعضاء مجلس السيادة والوزراء وولاة
الولايات أو حكام الأقاليم الترشح في الانتخابات العامة التي تلي الفترة
الانتقالية.) وذلك من خلال السماح لهم بالترشح في الانتخابات التي تلي الفترة
الانتقالية، بشرط تقديم استقالاتهم قبل ستة أشهر من نهاية الفترة الانتقالية، ويشكّل
هذا الوضع مخالفة دستورية للمادة (20).
سادساً: نصّ
الاتفاق على قيام الطرفين بتمثيل أطراف العملية السلمية الموقعة على الاتفاق
بإضافة (3) ثلاثة أعضاء في مجلس السيادة الحالي. هذا النصّ يخالف المادة 11- 2 من
الوثيقة الدستورية التي حددت عضوية مجلس السيادة بأحد عشر عضواً.
سابعاً: نصّ
الاتفاق على إنشاء نظام الحكم الإقليمي كما ورد في اتفاقيات السلام، على أن تتخذ
حكومة السودان الانتقالية التدابير القانونية اللازمة لاستصدار قرار رسمي باستعادة
نظام الأقاليم خلال مدة لا تتجاوز(60) الستين يوماً من تاريخ التوقيع على اتفاق
السلام مع الأطراف الموقعة على هذا الاتفاق.
هذا النصّ مخالف للوثيقة؛ إذ لا يجوز للحكومة إصدار
قرار بالتعديل المشار إليه، ويجب أن يخضع الأمر لتعديل المادة (8) من الوثيقة
الدستورية الخاص بمستويات الحكم لاستيعاب ما ورد بالاتفاق.
ثامناً: نصّ
الاتفاق على إصلاح الخدمة المدنية والتعيين على أساس اتفاق سياسي بين الطرفين
لأبناء مناطق الحروب، ومع الاتفاق على التمييز في التعيين بالمناطق التي تأثرت
بالحرب بما يحقق التوازن، فإن منح هذه الفرص يجب أن تكون على أساس الكفاءة والخبرة
ومتطلبات الخدمة، وليس تعييناً سياسياً؛ مما يشكّل مخالفة لمتطلبات المادة (8)
(12) من الوثيقة الدستورية الخاص بوضع برامج لإصلاح أجهزة الدولة خلال الفترة
الانتقالية بصورة تعكس استقلاليتها وقوميتها وعدالة توزيع الفرص فيها، دون المساس
بشروط الأهلية والكفاءة، على أن تسند مهمة أعمال الأجهزة العسكرية للمؤسسات
العسكرية وفق القانون.
تاسعاً: نصّ الاتفاق على
استيعاب ابناء وبنات دارفور في الوظائف العليا والوسيطة في مختلف أجهزة ومؤسسات
الدولة بنسبة 20%، وخلال خمسة وأربعين يوماً من تاريخ التوقيع على اتفاق السلام،
وهذا أمر مطلوب لمعالجة الاختلالات التي حدثت نتيجة الحرب، ولكن ما يعيب هذا النصّ
هو أنه ربط قرار التعيين بقرار سياسي، وبواسطة لجنة مشتركة بين الطرفين دون النصّ
على دور للخدمة المدنية، وأو للجهة التي سيتم فيها تعيين الأشخاص، مما قد يفتح
الباب لتمكين أشخاص تنقصهم الكفاءة والخبرة في وظائف عليا في الدولة.
عاشراً: وفقاً
لأحكام المادة (25) (1) (د) مقروءة مع المادة (25) (3) من الوثيقة الدستورية؛ فإن
المصادقة على الاتفاقيات والمعاهدات الثنائية والإقليمية والدولية من اختصاصات
لمجلس التشريعي الانتقالي، ولحين تشكيله، تؤول سلطات المجلس لأعضاء مجلسي السيادة
والوزراء يمارسونها في اجتماع مشترك، وتتخذ قراراته بالتوافق أو أغلبية ثلثي
الأعضاء.
والأمر المهم في هذا الجانب هو التنبيه أن تعديل
الوثيقة الدستورية لا تدخل ضمن الصلاحيات المشتركة للمجلسين، بل هي صلاحية حصرية
للمجلس التشريعي الانتقالي بموجب نص المادة (78) التي تنصّ على (لا يجوز تعديل أو إلغاء
هذه الوثيقة الدستورية الا بأغلبية ثلثي أعضاء المجلس التشريعي الانتقالي)؛ لذا فإنه
لا يمكن السير في تنفيذ أي بند في اتفاق جوبا ما لم يسبق ذلك تشكيل المجلس
التشريعي الانتقالي؛ ليقوم بدراسة ومناقشة الاتفاق وإجازته، ومن ثم إجراء
التعديلات اللازمة في الوثيقة الدستورية على ضوء ذلك، ولا شك أن المجلس الانتقالي
سيكون أمام خيارات صعبة إذ لا يمكن لها تجاوز المبدأ الدستوري الذي يجعل الدستور
فوق كل قانون أو قرار أو اتفاق، وأي تجاوز لهذا المبدأ سيقود حتماً للطعن حول عدم دستورية النص المشار إليه
ومجموعة أخرى من الأحكام الواردة في الاتفاق المخالفة للدستور أمام المحكمة
الدستورية، وذلك بموجب المادة (21) من الوثيقة الدستورية، إذ يجوز الطعن في أعمال
مجلس السيادة ومجلس الوزراء بواسطة كل متضرر من أعمالهما أمام المحكمة الدستورية إذا
كان الطعن متعلقاً بأي تجاوز للنظام الدستوري أو للحريات أو الحرمات أو الحقوق
الدستورية وأمام محكمة إذا كان الأمر متعلقاً بأي
تجاوز للقانون.
ختاماً، نأمل أن يلتزم شركاء السلام بإجراء المراجعات
المطلوبة حول النقاط الجوهرية التي أثيرت حولها ملاحظات جوهرية في مجالي توزيع
السلطة والثورة، مع الالتزام بأحكام الوثيقة الدستورية، ووضع الترتيبات الدستورية
والقانونية اللازمة لإنفاذه في إطار من الالتزام الوطني والشفافية، حتى لا تفقد
البلاد فرصة السلام الشامل والدائم الذي طال انتظاره.
والله من وراء
القصد.