يعترض البعض على سياسة رفع الدعم والإصلاح الاقتصادي التي أطلقها وزير المالية السابق الدكتور ابراهيم البدوي ويواصل فيها الدكتور عبدالله حمدوك ووزيرة ماليته المكلفة هبة، يعترضون عليها بقولهم انها نفس سياسة الإنقاذ وان البدوي وحمدوك هما معتز صدمة في ثوب جديد (إشارة إلى رئيس وزراء ووزير مالية نظام الإنقاذ معتز موسى)، وهذا الاعتراض خاطيء وساذج لانه لا يستصحب معه الفرق الجوهري بين حكومة معتز موسى الشمولية وحكومة حمدوك الديمقراطية.
من المؤسف ان هذا الاعتراض لم يخرج من سياسيين فقط بل خرج من اقتصاديين يعملون داخل وزارة المالية نفسها، هؤلاء الاقتصاديين نفذوا وقفات احتجاجية ضد الوزير البدوي اعتراضا على هذه السياسة بحجة انها سياسة فاشلة طبقت في عهد الإنقاذ وفشلت!! لم يكلف هؤلاء الاقتصاديين ومن خلفهم أولئك السياسيين انفسهم مشقة التساؤل هل الإنقاذ مقياس لنستدل بها؟ هل حكومة الإنقاذ الشمولية التي جاءت بانقلاب تشبه حكومة حمدوك التي جاءت بها الثورة؟! لو سألوا انفسهم هذه الأسئلة لما رددوا هذا الاعتراض بهذه الطريقة مرة أخرى.
الاقتصاديون العالميون يقولون ان الأسباب التي أدت إلى فشل الإصلاحات الاقتصادية في أفريقيا جنوب الصحراء رغم دعم المانحين السخي هو الطبيعة الشمولية لحكومات هذه الدول. الحكومة الشمولية تعريفا هي الحكومة التي تستأثر بكل المصالح لصالح نفسها وتحرم الجماهير. الإصلاحات التي حاول البنك الدولي تطبيقها في هذه الدول بدعم من المانحين فشلت لأن الحكومات الشمولية قلصت بها سلطات الجماهير وقوت بها نفوذها الشمولي، لذلك جاءت النتائج عكسية وتردى الاقتصاد بدل تحسنه. عليه أصبح من غير المتوقع أن تنجح اي إصلاحات اقتصادية في ظل نظام شمولي ما لم تترافق مع إصلاح سياسي يقود إلى سيادة دولة القانون، وهذا ما حدث لمعتز موسى بالضبط، حيث فشلت سياساته الاقتصادية لأنها استهدفت تقوية حكم جماعة الكيزان لا إشاعة الحرية الاقتصادية وتحقيق الرفاه للجماهير.
الفرصة أوسع بلا شك في نجاح الإصلاحات الاقتصادية في ظل حكومة حمدوك او اي حكومة ديمقراطية منتخبة، لأن الوضع الديمقراطي حيث سيادة حكم القانون يمثل حاضنة للتحول الاقتصادي، ترافق الإصلاحات الاقتصادية مع الإصلاحات السياسية يساهم في توطين النجاح على الصعيدين الااقتصادي والسياسي وينتج مع الايام دولة جديدة قابلة للتطور، مع الوضع في الحسبان التعقيدات والتحديات التي ظلت تواجه حكوماتنا الديمقراطية وخاصة على صعيد تحقيق السلام وتوحيد الجبهة الداخلية. بدون السلام وبدون وحدة سياسية خلف الحكومة في برنامج الإصلاح المطروح سيواجه المشروع العثرات بلا شك.
ما لا يعرفه الكثيرون أن برنامج الإصلاح الاقتصادي للبدوي لا يؤدي لرفع الدعم عن الوقود فقط بل يؤدي إلى رفع الدعم عن مؤسسة السلطة نفسها، وترشيد الصرف على مؤسسة السيادة والوزراء وحكومات الولايات والجيش والامن وآليات القهر السلطوية والجيوش الجرارة من السياسيين والتنفيذين والدبلوماسيين، ويعيد كل هذا الدعم للجماهير، فالهدف الاساسي لهذه الإصلاحات هو تقليص وظائف وهيمنة السلطة وزيادة قدرتها التخطيطية والقانونية وزيادة توسيع الفرص للجماهير للعمل الإبداعي والتنافس الحر وخلق الشراكات والصناعات الحديثة والمتطورة وتطوير اسواق اقتصادية قوية، وهي جميعها حزم ترفع من قيمة الإنتاج ومن جودة الصادر وتزيد من دخل الفرد ومن الناتج القومي، وهذه بدورها تؤدي إلى استقرار سعر الصرف ونهاية التضخم واستعادة عافية الجنيه وعودة السودان للمسار الصحيح مسار الخروج من دول العالم الثالث. هذه الخطوات طورتها أوربا الغربية واميركا فبلغتا القمة بها، ثم نجحت في تطبيقها دول شرق أوربا بعد انفصالها عن الاتحاد السوفيتي الاشتراكي فتطورت بسرعة، ثم طبقتها نمور شرق آسيا فقفزت إلى الامام، ولكنها ما زالت تتعثر في أفريقيا وبعض دول أمريكا الجنوبية نتيجة تفشي الشموليات وانعدام المؤسسات وحكم القانون.
لا يمكن اتهام البدوي وحمدوك بانهما مخطئين في هذه السياسة، بل هذه السياسة تمثل ترياقا ناجعا لازمتنا التاريخية، ولكنها تحتاج إلى وحدة سياسية خلف الحكومة، إلى إصلاحات سياسية تقود إلى سيادة حكم القانون، وإلى مؤسسات قادرة على التعامل مع التغييرات المالية وامتصاص الصدمات والثبات على المسار، هل هذا ممكن؟ نعم ممكن اذا لم يقم اليسار الايدولوجي باعتبار هذا الاصلاح نهاية لوجوده في السودان كما انتهت الشيوعية في شرق اوربا وقام بانقلاب على الحكومة الانتقالية لانقاذ نفسه.
sondy25@gmail.com