صدرت رواية “طوكر..حكاية مائة وألف قمر” سنة 2016 من دار العين للنشر للكاتب المصري عمرو شعراوي. شدني العنوان مثلما شدتني كلمات المؤلف في مطلع الرواية “الذاكرة الجمعية للمصريين عبرت عما حدث في طوكر سنة 1884م بعبارة تداولتها ألسنتهم لأكثر من مائة عام: (رحنا في طوكر)..اليوم قلة من المصريين يعرفون ماذا فقدنا في طوكر، وعدد ضئيل من هؤلاء يفهم بالضبط ماذا راح منا في طوكر”، فسارعت بقراءة الرواية رغم طولها إذ يبلغ عدد صفحاتها 580 صفحة من القطع المتوسط.
أحداث الرواية متزامنة مع أحداث حركة عرابي في مصر والثورة المهدية في السودان، في سنوات الثمانين من القرن التاسع عشر، وتدور حول مسيرة حياة عبدالكريم (الراوي) مع شقيقه الأكبر عبدالرحيم وهما من أسرة مصرية متوسطة التحقا بالجيش في أسلحة مختلفة، كان عبدالرحيم لا يتردد في الجهر برايه المعارض لانغماس الجيش في السياسة علي يد العرابيين، فنفي للعمل في السودان، وبقي الشقيق الأصغر في مصر حيث شارك ضمن صفوف العرابيين في قتال الجيش الإنجليزي في التل الكبير.
مني العرابيون بهزيمة ساحقة، واحتل الإنجليز القاهرة في سبتمبر 1882م. يقول الراوي، وهو عبدالكريم: “تعجبت من أننا لم نقاوم الجنرال الانجليزي الذي تقدم على رأس بضعة آلاف من قواته، واحتل مدينة بحجم القاهرة زاخرة بأهلها وعساكرها”.
عقب الهزيمة اختفى عبدالكريم خوفاً من القبض عليه في الحملة التي شنت على كل المشاركين في حركة عرابي حتى صدر عفو عام عنهم، فاضطر للالنحاق بقوات الجندرمة التي استوعبت بقايا جيش عرابي، وكانت مهمتها حفظ الأمن في مصر بعد انفراطه عقب معركة التل الكبير.
عدة دوافع جعلت عبدالكريم يلتحق بالجندرمة التي تحولت أهدافها من حفظ الأمن الداخلي إلى السفر للقتال في السودان؛ لإنقاذ القوات المصرية المحاصرة في طوكر. عانى عبدالكريم من التخفى والهروب من مطاردة الحكومة التي كانت تتعقب العرابيين. اضطر إلى العمل في مهنة صبي حافر قبور(تربي) في أطراف القاهرة، وتبديد القليل من المال الذي كان يجنيه في مراقص القاهرة، وتضاعف إحساسه بالوحدة القاتلة بعد أن اجتاح وباء الهيضة (الكوليرا) مصر في تلك الأيام، ووفاة والدته وشقيقته، وأعقب ذلك زواج والده واستقلاله بسكنه، إلا أن الدافع الأكثر أهمية وتأثيراً الذي دفعه للمشاركة في حملة إنقاذ طوكر كان وجود شقيقه عبدالرحيم محاصراً داخل طوكر.
ظن أنه سيحقق هناك ما لم يستطع تحقيقه في مصر، ويستعيد عائلته من جديد، ولم الشمل بعد لقاء شقيقه عبدالرحيم.
وصلت حملة إنقاذ طوكر سواكن بحراً من السويس. “الناس في سواكن الخير مشغولون بلقمة العيش. الأهالي يستشعرون الخطر الداهم، لكنهم لا يبالون بما يحدث حولهم. منهم من يشكو من ظلم الحكام، ومنهم من يشكك في حقيقة المهدي، ومنهم من يتوقع نهاية الترك على يديه”.
المؤلف وغلاف روايته
من سواكن بحرت الحملة إلي خليج ترنكتات الذي يشبه إلى حد كبير خليج سواكن. نزل الغزاة إلى اليابسة بكامل عدتهم وعتادهم وخيولهم وجمالهم. كانت الجبال تبدو أكثر بعداً من الشاطئ، وكان عبدالكريم يثق ثقة كاملة في هزيمة أنصار المهدي بعد كل هذه الاستعدادات. كانت معلوماتهم الاستخبارية تؤكد أن قوات الأنصار لا تتعدى الألف مقاتل سيفرون أمام الحملة لا محالة.
تحمل الأحلام عبدالكريم بعيداً من خليج ترنكتات إلى داخل طوكر فيتخيل الدهشة التي ستصيب شقيقه عبدالرحيم عندما يلتقيه وجهاً لوجه.
قرب آبار التب وفي الطريق إلى طوكر حدثت المذبحة. باغتهم محاربو البجا، وأعملوا في صفوفهم القتل بسيوفهم ورماحهم. يقول الراوي: “بلغ الفزع بجنودنا حداً عظيماً. أول ما خطر في بالهم كان هلاك هكس باشا على أيدي دراويش المهدي. سمعت ملازماً شاباً يصرخ: سيذبحوننا كما ذبحوا هكس باشا وجيشه. علا نهيق البغال، واشتد رغاء الإبل، وتزايدت صيحات مقاتلي البجا الذين دخلوا إلى قلب المربع بعد أن تحطم، وذابت ملامحه. رمى كثير من الجنود أسلحتهم، وفروا هاربين. نظرت حولي فرأيت أرض المعركة، وقد تكدست فوقها أشلاء المئات من عساكرنا المذبوحين. الطريق إلى خليج ترنكتات امتد أمامي بلا نهاية. شاهدت أفراداً يفرون كأن عفريتاً من الجان يطاردهم، ويريد أن يفتك بهم. الهلع الذي أصاب الجنود لم يترك لنا فرصة لإعادة تنظيم أنفسنا. حلت بنا كارثة لم يتخيلها أحد. فليفلت إذاً كل منا بحياته”.
في صباح اليوم التالي غادرت البواخر خليج ترنكتات عائدة إلى سواكن، وعلى متنها من تبقى من أفراد الحملة. “كانت الخسائر فادحة. فقدوا نحو ألفي فرد عند آبار التب من ضمنهم كثير من الضباط المصريين والأوروبيين. “فقدنا ألفين من أصل ثلاثة آلاف فرد مسلحين بالبنادق الحديثة، والمدافع الثقيلة في هجوم قام به ما لا يزيد عن ألف محارب معظمهم لا يحمل سوى الأسلحة البدائية”.
يبدو أن هذا هو سر عبارة “رحنا في طوكر” التي يستخدمها المصريون إلى اليوم. وهي لا تعني غير “رحنا في ستين داهية”. فعلا “راحوا في ستين داهية”.
معظم أحداث الرواية جرت في مصر، في حين أن ما يتعلق بطوكر نفسها خصصت له صفحات قليلة من الرواية. رغم أن الرواية كلها من نسج الخيال كما يقول الكاتب، إلا أنها تقدم صورا بانورامية لمواقع الأحداث والمجتمعات التي دارت فيها، وتبلغ قمة التشويق عندما يفلح الراوي عبدالكريم في دخول طوكر، بعد أن أخلاها الأنصار، فلم يجد شقيقه عبدالرحيم الذي انضم لقوات الأمير عثمان دقنة التي احتلت طوكر، ثم أخلتها.
كما تحتوي الرواية على افادات توضح المواقف تستشف من حوارات الضباط المصريين زملاء الراوي، يقول أحدهم: ” العرابيون رفضوا بعث التعزيزات إلى السودان ظناً منهم أن القوات الموجودة هناك كافية للحفاظ على أمنه، بالإضافة إلى أن ارسال هذه القوة سيقلل من حجم الجيش الموجود في مصر مما سيضعف موقفهم المعارض للخديوي، ويقلل من امكانية التصدي لأي عدوان خارجي”.
ويقول الراوي: ” لن نتخلى عن السودان بهذه السهولة. فمصر والسودان بلد واحد”.
يرد عليه ضابط آخر:” ولكن هل لدى السودانيين نفس الشعور؟”.
في النهاية يفاجئنا الراوي بقوله إنه لم يسافر اصلا للسودان مع حملة إنقاذ طوكر، بل بقي في السويس بعد أن هرب مع الهاربين من قطار الموت المتجه من القاهرة للسويس في الطريق إلى سواكن. فر مع مئات الهاربين الذين قفزوا من القطار هرباً من الموت في السودان. في السويس كان يتابع أخبار حملة إنقاذ طوكر من الصحف، ومن القادمين من سواكن ويرسل الرسائل لوالده من هناك يصف فيها المعارك التي دارت في السودان، كأنه مشارك فيها.
كان يبعث رسائله لسواكن ليعاد إرسالها من هناك للقاهرة.
لم أستطع فهم ما يعنيه الكاتب من عبارة “حكاية مائة وألف قمر” التي وردت مرتين في الرواية. ربما كان يعني سنوات طويلة.
khamma46@yahoo.com